بانسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرة أخرى من اتفاق إيران النووي- المعروف رسميا باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة"- أظهرت أنها عاقدة العزم على تدمير الكيانات والاتفاقات العالمية الرئيسة، وسيمثل هذا القرار ضربة قوية لاتفاق 2015، مما يعرض العالَم بأسره للخطر.أُبرِم هذا الاتفاق- الذي جاء نتيجة لسنوات من المفاوضات الصعبة- بموافقة سبع دول في الاتحاد الأوروبي، وأقره بالإجماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلا أن ترامب قرر من جانب واحد فرض "أعلى مستوى من العقوبات الاقتصادية" على إيران وعلى "أي دولة تساعد إيران في سعيها إلى الحصول على الأسلحة النووية".
والآن، أصبحت الشركات والبنوك من الدول التي أوفت بالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة عُرضة لقدر كبير من المعاناة، نتيجة لعلاقات العمل المشروعة مع إيران، بعبارة أخرى قررت الدولة التي نقضت وعودها معاقبة أولئك الذين أوفوا بعهودهم.حتى الآن لا يزال إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة في حكم الممكن، فقد أكدت كل الأطراف الأخرى في الاتفاق مجددا التزاماتها بموجبه، ولكن يتعين على الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، أن يتقدم ويتحمل المسؤولية عن ضمان بقاء خطة العمل الشاملة المشتركة، ورغم أن العلاقات عبر الأطلسي تمثل أولوية عالية، فلا يقل عنها أهمية الدفاع عن التعددية- وكل معالمها- ضد الهجمات المتهورة وغير المبررة، ويصدق هذا بشكل خاص عندما لا يكون الهدف من هذه الهجمات وضع "أميركا أولا" بل وضع ترامب أولا.جاء انسحاب ترامب من "خطة العمل الشاملة المشتركة" في لحظة بالغة الحساسية للعلاقات الدولية. فمن ناحية يظل الانتشار النووي على رأس الأجندة في شبه الجزيرة الكورية، وعلى الرغم من اتخاذ بعض الخطوات الإيجابية في الآونة الأخيرة، فإن إدارة ترامب قد تهدر هذه الفرصة، بفِعل نهجها السياسي غير المتماسك.مؤخرا، التقى رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن زعيم كوريا الجنوبية كيم جونغ أون لمناقشة اتفاق سلام رسمي لإنهاء الحرب الكورية، وكان اجتماع القائدين بمثابة مقدمة لقمة أخرى غير عادية، بين كيم وترامب، والتي من المقرر أن تعقد في الثاني عشر من يونيو.يعكس أول اجتماع على الإطلاق بين زعيم كوري شمالي ورئيس أميركي لا يزال في منصبه تقدما كبيرا تحقق في غضون بضعة أشهر، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن عام 2018 بدأ بتبادل التهديدات للمرة الألف بين كيم وترامب، وكان ترامب مبالغا إلى حد التباهي بحجم "زره النووي".ولكن منذ ذلك الحين، اعتمدت الولايات المتحدة على الدبلوماسية بدلا من الغطرسة الفارغة في التعامل مع التهديد النووي الكوري الشمالي، وهو النهج الذي عمل على تمكين التقدم في الآونة الأخيرة، ورغم هذا وفي حين كان وزير الخارجية الأميركية المعين حديثا مايك بومبيو يستعد للتوجه إلى كوريا الشمالية لمقابلة كيم للمرة الثانية، عاد ترامب إلى أسلوبه العدائي في التعامل مع إيران.كان من المتوقع دوما أن يتسم التفاوض مع كيم بصعوبة شديدة، خصوصا أن كوريا الشمالية، خلافا لإيران، تمتلك بالفعل أسلحة نووية، ومع تقويض مصداقية الدبلوماسية الأميركية بفِعل انتهاك ترامب لـ"خطة العمل الشاملة المشتركة" مع إيران، ستكون هذه المهمة أشد صعوبة.يميل ترامب إلى التعبير عن نفسه من منظور المصالح الوطنية، والسيادة، والقدرات العسكرية، والتفوق الاقتصادي. ومع ذلك فإن هوسه بإيران لا علاقة له بالسياسة الواقعية، بل يتماشى مع رفضه المنهجي لكل السياسات المرتبطة بسلفه الرئيس باراك أوباما. فضلا عن ذلك، كان المقصود من الانسحاب من "خطة العمل الشاملة المشتركة" إرضاء حليفي ترامب المفضلين في الشرق الأوسط: المملكة العربية السعودية وإسرائيل، أول دولتين قام بزيارتهما بعد توليه منصبه.في الواقع، عندما قام ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان بزيارة البيت الأبيض في مارس، سرعان ما تملص ترامب من المسألة الشائكة المتعلقة بالحرب التي تقودها السعودية في اليمن من خلال شجب الدعم الإيراني للمتمردين الحوثيين. وبدلا من اتخاذ المبادرة الدبلوماسية لإنهاء القتال وإعادة الاستقرار إلى اليمن، استمرت إدارة ترامب في إذكاء نيران حرب الوكالة السعودية الإيرانية التي تتسبب في إحداث قدر هائل من المعاناة وتعكر صفو المنطقة.وعملت الولايات المتحدة أمس على نقل سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وكان إعلان ترامب عن هذه الخطوة في ديسمبر سببا بالفعل في توليد قدر عظيم من عدم الارتياح في العالَم الإسلامي (وإن كانت احتجاجات إيران أكثر عدوانية من الاحتجاجات في المملكة العربية السعودية). وأفضى افتتاح السفارة في الذكرى السنوية السبعين لإعلان استقلال إسرائيل على وجه التحديد إلى احتدام الجدال، وفي اليوم التالي يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة، التي تتزامن مع التشريد الجماعي للسكان الفلسطينيين، والذي نتج عن قيام دولة إسرائيل.من المؤكد أن تحالف الولايات المتحدة مع إسرائيل ليس جديدا، لكن ترامب تخلى عن النهج الأكثر اعتدالا الذي تبنته الإدارة السابقة، وهو يجازف بالتالي بفتح أبواب الجحيم في الشرق الأوسط، والآن أصبح المتشددون في البلدين أكثر جرأة، كما يتضح من المحاولة الشاذة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتشكيك في "خطة العمل الشاملة المشتركة" والانتقاص من قدرها، ويصدق الأمر نفسه في إيران، حيث يصب انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل مباشر في مصلحة المتشددين.ولا تبشر الأحوال الراهنة بالخير في ما يتصل بسورية، حيث تمس الأحداث الجارية هناك كل القوى في المنطقة، وقد حدثت اشتباكات بين القوات الإسرائيلية والإيرانية بالفعل في جنوب سورية، والآن تهدد حكومة نتنياهو باتخاذ المزيد من التدابير في الاستجابة لتقارير عن احتمال قيام روسيا بتزويد الرئيس السوري بشار الأسد بصواريخ مضادة للطائرات من طراز س-300.من المؤكد أن إبطال ترامب خطة العمل الشاملة المشتركة سيغذي دوامة من المواجهات في الشرق الأوسط، في حين يعمل على تعقيد الأمور على شبه الجزيرة الكورية، وعلى نطاق أوسع ربما يخلف قرار ترامب عواقب جسيمة على الجهود العالمية لمنع انتشار الأسلحة النووية، والتي ربما تتراجع وتنتكس الآن، وستكون المخاطر في الأسابيع والأشهر المقبلة جسيمة إلى حد غير مسبوق.*خافيير سولانا* ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمن، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، وهو يشغل حاليا منصب رئيس مركز إيساد (ESADE) للدراسات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية، وهو زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز. «بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
عصر جديد من عدم اليقين النووي
16-05-2018