ذات صباح اكتشف الدكتور نبيل، أستاذ الجامعة، اختفاء مبلغ ألف جنيه من خزانة ملابسه. وقف الرجل مذهولاً داخل غرفة نومه يبحث في رأسه عن اللص الذي تجرأ ومدّ يده إلى أمواله. زاد من حيرته أنه يعيش مع أبنائه الأربعة فقط، ولا يتردّد على منزلهم أي شخص غريب.«معقول يكون اللص واحداً من الأولاد؟»، سؤال انفجر في عقل الدكتور نبيل من دون إرادته. ولكنه سرعان ما عاد يقول لنفسه: «لا... لا يمكن. أنا أولادي متربيين أحسن تربية». لكن الحيرة والأسئلة التي لا إجابة عنها كادت تدفع بالأب إلى حافة الجنون.تهالك أستاذ الجامعة فوق أقرب مقعد وراح يستعرض السيرة الذاتية لكل ابن من الأبناء الأربعة، فالجميع مشتبه فيه.ماجد؛ أكبر الأبناء، الطالب المتفوق في كلية الطب، لم يذكر له والده ولو غلطة طوال سنوات عمره. وحاتم، الثاني في الترتيب، هو أيضاً طالب متفوّق في كلية الطب؛ صحيح أنه عصبي المزاج، لكنه طيب القلب ومن الصعب أن يكون وراء سرقة المبلغ. أما شريف ثالث الأبناء، فهو الطالب في كلية الهندسة، ويتميَّز بأنه هادئ الطباع ومهذب إلى أقصى درجة، بل يكاد يكون شخصاً منطوياً على نفسه.أما آخر العنقود، فهي أميرة، طالبة في كلية الصيدلة، فتاة متفوقة ومهذبة وجميلة، ومن المستحيل أن تكون وراء السرقة، لأنها باختصار ليست في حاجة إلى سرقة أية أموال، فكل ما تطلبه من والدها تحصل عليه بقبلة على جبينه كل صباح، لأنها باختصار «دلوعة والدها». كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، على القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. وأن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية هي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.في هذه القضية، تتشابك المشاعر وتختلط في عقل الأب الذي رحلت عنه رفيقة دربه، تاركةً خلفها أربعة من الأبناء. إعصار الرحيل، حفر أثره الذي لا يُمحى في أسرة أستاذ الجامعة الشهير، الذي حاول أن يواصل أداء رسالته وتربية الأبناء، لكن اختفاء الألف جنيه من خزانة ملابسه كان القشة التي قصمت ظهره، وكشفت له أن ثمة خطأ ما في أولاده. وعندما اكتشف الحقيقة كان أوان إصلاح المعوج فات.
مَن فعلها؟
من يكون اللص؟ عاد السؤال الحائر يتردّد على لسان الأب أستاذ الجامعة الذي فشل في الإجابة، وفشل أيضاً في الإجابة عن سؤال آخر أكثر حيرة: ما الذي يدفع ابناً من أبنائه الأربعة إلى الاستيلاء على المبلغ بينما هو، الأب، لا يحرم أياً منهم من أي أمر. هذان السؤالان الحائران قفزا إلى عقل الأب بفكرة غريبة كان عليه تنفيذها كي يتعرف إلى اللص الحقيقي من بين أولاده الأربعة.قرّر الأب أن يكلِّف أحد معارفه السابقين بمراقبة أولاده الأربعة لمدة شهر كامل، فتكون المراقبة لكل ولد من الأولاد لمدة أسبوع كامل كي يعرف عن قرب سلوكيات كل منهم، خصوصاً أنه انشغل في عمله عنهم بعض الشيء لا سيما بعد وفاة والدتهم منذ ثلاث سنوات، وهو الأمر الدافع إلى حدوث تغيرات ممكنة في خطواتهم من دون أن يشعر.اتصل الدكتور نبيل، بالمساعد في الشرطة سيد؛ أحد معارفه القدامى، والذي سبق له العمل في أحد أقسام الشرطة التابعة لمديرية أمن الشرقية قبل إحالته إلى التقاعد. طلب أستاذ الجامعة من الشرطي السابق القيام بمهمة مراقبة الأولاد، وكتابة تقرير خاص بكل ابن بعد نهاية كل أسبوع.وافق المساعد سيد بقبول المهمة، وتعهّد بأن ينقل إلى الوالد الحائر كل كبيرة وصغيرة عن تصرفات الأبناء الأربعة.رقابة سرية
بدأت المهمة السرية جداً. في البداية، اختار المساعد سيد، الابنة الوحيدة أميرة، ليراقب تصرفاتها كافة عن كثب، وفعلاً مرّ أسبوع المراقبة، وعاد المساعد سيد بالتفاصيل كلها تقريباً عن الابنة الصغرى للدكتور نبيل، ولكن لم يجد لديها أي أمر يقوله لوالدها سوى أنها فتاة ملتزمة، تذهب إلى الكلية في الصباح، وتعود مباشرة إلى البيت ولا تختلط بأية زميلة أو زميل في الجامعة.هذا الكلام المدوّن في تقرير المساعد سيد، أثلج صدر الأب تماماً، والذي استبعد بدوره ابنته أميرة من دائرة الشك. قال في قرارة نفسه إنه كان واثقاً من براءة ابنته الحبيبة في أن تكون وراء سرقة مبلغ الألف جنيه.وجاء الأسبوع الثاني، أو بمعنى أدق، جاء الدور على أكبر الأبناء؛ ماجد، تابعه المساعد سيد جيداً، لم يفارقه لحظة. سار خلفه كظله في كل مكان، وانتهى أسبوع المراقبة، وقال المساعد سيد للأب إن تصرفات ابنه الأكبر طبيعية للغاية، وإن أصدقاءه كلهم على خلق، وإن ابنه الأكبر مشغول تماماً بدراسته الجامعية، خصوصاً أنه في السنة النهائية لكلية الطب، وليس لديه الوقت سوى لاستذكار دروسه.وأحس الأب براحة كبيرة لكلمات المساعد سيد، بعدما تأكّد الدكتور نبيل أنه رغم مشاغله الكثيرة فإنه نجح بنسبة 50%، في دوره كأب، خصوصاً بعد وفاة زوجته، وأنه رغم انشغاله بعمله الجامعي تمكّن على الأقل حتى الآن من تربية اثنين من أولاده الأربعة بنجاح كامل.وجاء الأسبوع الثالث، وبدأ المساعد سيد المكلف برقابة الأولاد في مطاردة حاتم، ثالث أبناء أستاذ الجامعة، وثاني الأولاد الذكور في كل مكان يذهب إليه. كانت تصرفات الابن الثاني وتحركاته طبيعية جداً. وبعد نهاية الأسبوع عاد المساعد سيد، إلى الأب أستاذ الجامعة حاملاً إليه البشرى الثالثة، مؤكداً أن حاتماً، ثاني الأولاد، لا يختلف عن شقيقه الأكبر ماجد، وشقيقته الصغرى أميرة، وأن أخلاقه رائعة وليست له تصرفات تثير أي نوع من الشبهات، فضلاً عن أن أصدقاءه كلهم من طبيعته نفسها ومستواه المادي ذاته. باختصار، هم أولاد ناس محترمون.الابن الأصغر
لم يتبق في دائرة «الشبهات» سوى شريف الابن الثالث الطالب بكلية الهندسة. كاد الحزن أن يفتك بالأب، وهو يدرك أنه لم يعد في دائرة الشك سوى أصغر الأولاد الذكور شريف. راح الدكتور نبيل يتساءل بينه وبين نفسه: هل يمكن أن يكون شريف هو اللص؟وعاد الأب يطرد الوساوس من رأسه ويستنكر أن يكون ابنه شريف وراء سرقة مبلغ الألف جنيه. فكّر في إنهاء مهمة المساعد سيد، ولكن الفضول دفعه إلى استكمال المأمورية كي يقطع الأب الشك باليقين ويتعرف إلى اللص من أولاده. بدأ المساعد سيد المكلف بمرقابة شريف ومتابعته جيداً لمدة سبعة أيام كاملة، اكتشف خلالها المفاجأة.شريف الابن الأصغر، يتردّد على وكر من أوكار تعاطي المخدرات مع شلة من أصدقاء السوء. احتار المساعد سيد هل يخبر الدكتور نبيل بهذه المعلومة الكارثية التي اكتشفها في أول يوم مراقبة، أم يسكت. فضّل أن ينتهي الأسبوع ليعود إلى الأب بالخبر المشؤوم.انتهى أسبوع المراقبة الأخير. عاد المساعد سيد مطأطئ الرأس، وكاد قلب الدكتور نبيل يتوقف وهو يستمع بترقب إلى كلمات المساعد سيد المكلف برقابة أولاده عن أحوال ثالث الأولاد شريف طالب كلية الهندسة. وأدرك أستاذ الجامعة أن ابنه الأصغر هو اللص الذي استولى على مبلغ الألف جنيه من خزانة ملابسه. ولكن أمر السرقة كان هيناً أزاء الكارثة الكبرى، وهي أن ابنه الأصغر سقط في بئر الإدمان.لم يتحمّل الدكتور نبيل الصدمة الرهيبة التي ألجمته. شعر بأن الدنيا تدور به. طلب من المساعد سيد الذي سبق وكلفه بمهمة مراقبة أولاده أن يشاركه في متابعة أحوال شريف ثالث أبنائه المدمن، وفوراً انطلقا في سيارة الأب إلى وكر تعاطي المخدرات الذي يجلس فيه طالب كلية الهندسة الآن.وكر التعاطي
عندما وصل الأب بسيارته إلى المكان شاهد ابنه شريف يغادر وكر تعاطي المخدرات، ويقفز إلى سيارته وينطلق بها فى طريق العاشر من رمضان. لم يفكر الدكتور نبيل كثيراً وانطلق بدوره خلف سيارة ابنه المدمن الذي انحرف بسيارته إلى «مدق» وسط الجبل، حيث كان متجهاً لشراء كمية أخرى من المخدرات.في الطريق الوعر الذي قاد فيه الابن المدمن سيارته كانت هناك مجموعة من الناضورجية التابعين لتجار المخدرات ينظمون حركة دخول السيارات، ولأن الابن المدمن معروف لديهم تركوه يمرّ بسلام، ولكن عندما وصلت سيارة الأب أستاذ الجامعة استوقفوها بعدما ارتابوا فيه وفي المساعد الذي يرافقه واعتقدوا أنهما من رجال المباحث.حاول أستاذ الجامعة التظاهر بأنه أحد المدمنين كي يمرّ بسيارته ليلحق بسيارة ابنه المدمن شريف، ولكن جاء الرد سريعاً من الناضورجية، إذ اخرج اثنان منهم سلاحيهما وامطرا سيارة الدكتور نبيل بوابل من الرصاص اخترق جسد أستاذ الجامعة وارداه قتيلاً في الحال بينما أصيب المساعد سيد الجالس إلى جواره بإصابات بالغة.صوت الرصاص أجبر شريف؛ الابن المدمن، على التوقف بسيارته والهبوط منها ليستطلع ما يجري خلفه. اقترب بخطوات حثيثة ليجد المفاجأة المذهلة في انتظاره، سيارة والده وبداخلها أستاذ الجامعة غارقاً في دمائه لا يتحرك. حاول الابن المدمن أن يصرخ بأعلى صوته، ولكن فوهة رشاش آلي صوّبها أحدهم إلى رأسه أسكتته، ومعها صوت أجش يقول بصرامة: أنت تعرف الرجل ده؟لم يجرؤ الابن المدمن شريف أن ينطق للحظات. كان الحزن على والده القتيل يعتصر قلبه ولكن الرعب كان تملّك منه تماماً. خاف أن يفصح عن حقيقة أن القتيل هو والده الدكتور نبيل أستاذ الجامعة الشهير، كي لا ينال الجزاء نفسه على يد الناضورجية ويُدفنا في الصحراء. لملم الابن شتات نفسه بصعوبة بالغة وقال والدموع تسيل من عينيه: أيوه أعرفه... ده يبقى واحد جارنا!بسرعة البرق استقل شريف الابن المدمن سيارته، وانطلق بها إلى مديرية أمن الشرقية، وأبلغ بمقتل والده أستاذ الجامعة على يد تجار المخدرات، وفوراً توجهت قوة من رجال المباحث إلى مكان وقوع الجريمة.استقبل الناضورجية القوة بوابل من الرصاص، ولكن انتهت المعركة بين رجال الشرطة وتجار الموت والتي لم تستمر طويلاً بإلقاء القبض على أحد تجار المخدرات وقاتلي الدكتور نبيل.كذلك نجح أفراد الشرطة في إنقاذ المساعد سيد، ونقلوه بسرعة إلى المستشفى، ولكن إصابة الرجل كانت خطيرة فدخل في غيبوبة بعدما طالت إحدى رصاصات الناضورجية رأسه، فيما قرر وكيل النيابة، أيمن خالد أبو سحلي، إحالة الجناة إلى محكمة جنايات الزقازيق.اعتراف وندم
في قاعة المحكمة، وأثناء انعقاد جلسات المحاكمة حضر المساعد سيد، وأدلى بأقواله بعدما نجح الأطباء في إنقاذ حياته. وحكى لهيئة المحكمة حكاية الوالد الراحل الدكتور نبيل، مع أبنائه الأربعة كاملة، وأنه كلّفه باكتشاف أي من أولاده سرق أمواله، ليجلس الابن شريف طالب كلية الهندسة المدمن، والدموع تنهمر من عينيه وسط أشقائه، الذين راحوا يرمقونه بنظرات الاستنكار لشعورهم بأنه السبب في فقدانهم والدهم.ويعترف الجناة الثلاثة بجريمتهم إزاء هيئة المحكمة برئاسة المستشار حسن أبو الوفا، وعضوية المستشارين محمد أنور أبو سحلى، ورأفت زكي، وأمانة سر حسن عبد المجيد، التي قضت بمعاقبة تاجر المخدرات بالسجن المؤبد، وقاتلي الأب الراحل الدكتور نبيل أستاذ الجامعة الشهير، بالسجن المشدد 20 عاماً لارتكابهما جريمة القتل، وإحراز سلاح غير مرخص.وفي نهاية الجلسة، سقط شريف مغشياً عليه من هول الصدمة وشعوره بالندم والخطيئة بعدما ضيع والده بسبب إدمانه المخدرات. حمل الأشقاء شريفاً إلى منزل الأسرة، وأفاق هناك لينظر إلى صور والده في كل مكان فيصرخ بأعلى صوته إزاء بقية أشقائه قائلاً: «سامحوني أنا قاتل والدنا الحقيقي».