لو تواضعوا قليلاً
الطفلة وصال الشيخ خليل - 14 عاماً - تمنت على والدتها أن تدفنها في البقعة التي ستموت فيها عند مكان ثورة الكرامة بين إسرائيل وقطاع غزة، أو تدفن في قطعة أرض قرب قبر جدها، استشهدت وصال، وكانت واحدة من عشرات الشهداء – إن لم يصبحوا الآن بالمئات – في مظاهرات العودة للأرض (تقرير الغارديان 15 مايو)، يذكر التقرير، أيضاً، عن عائلة غزاوية أخرى خرجت أطفالها للتظاهر عند حدود الظلم والبؤس، ظلت هذه العائلة لعدة أشهر، ومثلها الكثير من الأسر في غزة أفرادها يتنقلون من شقة لأخرى، ومن مكان لآخر، لعجزهم عن توفير أجرة السكن، فالحصار المفروض على غزة منذ أكثر من عقد يجعل الحياة مستحيلة.أمنية الطفلة وصال بالاستشهاد تحققت، وكانت حكاية من عشرات الحكايات التي تبهرنا بأبطالها، حين تصبح الحياة بلا معنى من دون النبش في فلسفة العبث الوجودية، ويكون الموت هو طريق الخلاص الوحيد من واقع العذاب الدائم. وصال لم تختر مصيرها عندما وجدت نفسها في حالة بؤس منذ لحظة ولادتها في عالم التهجير والفقر الدائمين، فتنضج مرة واحدة عندما تصل لقرار المخاطرة بالتظاهر، وتحقق أمنيتها بالاستشهاد من أجل قضية فرضت عليها، وتعذبت هي مع كل الغزاويين بسببها، وهي معاقبة شعب بكامله لأنه اختار منهج حياته ومن يمثله.
لا يمكن فهم مظاهرات العودة لأهل غزة (معظم الغزاويين هم من تم تهجيرهم من فلسطين في نكبة 48) على أنها نتيجة تحريض من قادة حماس، أو أن الثوار يريدون نفي إسرائيل، هم بعبارة عاطف أبوسيف، الذي كتب في "الغارديان" عدد 14 مايو، "يريدون المستقبل لا أكثر"، ويندب الكاتب مصادفة واقعه اليوم في بؤس غزة وفقرها، بينما كان "من المفترض" أن يكون قد ولد في واحدة من الفيلات الفاخرة التي كان يمتلكها جده في حيفا، لكن واقعه المزري في غزة اليوم ينفي "حلمه" الذي كان من الممكن أن يكون حقيقة لولا مسيرة الغدر التاريخي لوطنه.الغزاويون الفلسطينيون في مسيرة العودة يعاقبون لأنهم اختاروا "حماس" في انتخاباتهم، فإذا لم تكن نتائج الانتخابات بما يرضي إسرائيل والولايات المتحدة ويوافق مصالحهما، تصبح عندها غير مشروعة وعقاب أهلها ضرورة، هذا ليس جديداً على السياسة الأميركية، فالسوابق التاريخية في إيران مصدق وأميركا اللاتينية وجزائر جبهة الإنقاذ تشهد على ذلك التاريخ الانتهازي، ما يثير الحنق اليوم هو مواقف عدد من "مثقفي" الكرب في دولنا، وهم يروجون لسياسة "التطبيع" - مع أن الأمور مطبعة وغارقة في التطبيع – مع إسرائيل، فهم بحجة الواقعية السياسية يروجون لمثل الخطاب الأميركي – الإسرائيلي بأن كل مسألة الضحايا (أصبحت مسألة) هي نتيجة "حماس" وسياساتها المتصلبة، عندها تستحق إسرائيل حكم البراءة من دماء الضحايا اليوم! ليس من المطلوب من هؤلاء المتحدثين باسم الواقعية والعقلانية السياسية أن يرددوا مثلاً خطاب تشومسكي أو الراحل إدوارد سعيد بأن يكونوا "مثقفين" عضويين بموقف ناقد للسلطة دائماً، كل المطلوب منهم الآن قليل من الخجل والتواضع الثقافي، حين يقرأون مثل مأساة الراحلة وصال الشيخ، لعلهم يستشعرون بخيالهم الكسيح النزر اليسير من ألم شعبها.