استيقظ أهالي إحدى القرى الصغيرة التابعة لمدينة إيتاي البارود بمحافظة البحيرة غير البعيدة عن ترعة المحمودية، على معركة حامية، نشبت فجأة بين أفراد عائلة واحدة بالقرية ذاتها. قاد المزارع البسيط عبدالرحمن أحد طرفي المعركة حامية الوطيس، في مواجهة ثلاثة مدرسين هم أبناء شقيقة زوجته.

كانت المشاجرة تتكرّر بين أصاحب الأرض المتجاورة على أولوية ري الأرض الزراعية. ادعى المزارع عبد الرحمن (55 عاماً) أن جيرانه في الأرض؛ وهم أبناء شقيقة زوجته في الوقت ذاته، يحاولون ري أرضهم قبل أرضه بالمخالفة لنوبات الري المتفق عليها بينهما منذ كان والدهم على قيد الحياة ويشرف على أرضه بنفسه.

Ad

على الجانب الآخر، وقف المدرسون الثلاثة ينفون اتهام زوج خالتهم لهم، وأكدوا لأهالي القرية أنهم ملتزمون بمواعيد الري المتفق عليها سابقاً، ولكن زوج خالتهم عبد الرحمن، يدعي ذلك الأمر دوماً، ويتشاجر معهم باستمرار منذ 10 سنوات كاملة لرغبته في شراء أرضهم ورفضهم البيع رغم إغراءاته لهم.

تصاعدت حدة المواجهة... كلمة من المزارع عبد الرحمن، وكلمة من المدرسين الثلاثة، ولفظ من هنا ولفظ من هناك اندلعت شرارة الغضب بين طرفي المشاجرة، وهرول أهالي القرية الذين تجمعوا في محاولة لإنهاء المعركة، واحتواء الخلاف وكادوا ينجحون في مهمتهم السلمية، ولكن!

فجأة وقع ما أشعل نيران الغضب مجدداً، عندما وصل إلى مكان المشاجرة الشاب سامر (22 عاماً)، الابن الوحيد للحاج عبد الرحمن، حاملاً بندقية في يديه وراح يطلق أعيرة في الهواء لإرهاب أولاد خالته، الذين أسرعوا ناحيته ونجحوا في خطف البندقية منه، وانهالوا بالضرب المبرح عليه. وبالطبع انطلق عبد الرحمن ليدافع عن ابنه الوحيد بفأس يمسكه بيده، لتشتعل معركة حامية الوطيس تحت سمع وبصر أهالي القرية الذين أخذهم الذهول من هول ما يرون.

مشاجرة حامية

خرجت الأمور عن السيطرة عندما أصيب أحد الأشقاء الثلاثة في يده بضربة فأس زوج خالته فاندفع شقيقاه يدافعان عنه، أحد الشقيقين وجد في يده بندقية الفتى سامر بعدما انتزعها منه، فضربه بها على رأسه، بينما تمكن الشقيق الآخر من الإمساك بالفأس من يد المزارع عبد الرحمن، ولكمه بقوة ثم ضربه بظهر الفأس على رأسه، واستمرت المشاجرة الحامية بين الطرفين أكثر من ربع ساعة، ولم تنته إلا بعدما غاب سامر عن الوعي، وسقط والده سابحاً في دمائه.

بعد انتهاء المعركة وسقوط الحاج عبد الرحمن وولده سامر، وصلت سيارة الشرطة إلى ساحة القتال إثر بلاغ من أهالي القرية بالواقعة، ونجح رجال الشرطة في السيطرة على الموقف، وألقي القبض على الأشقاء المدرسين الثلاثة، فيما نُقل سامر ووالده إلى أقرب مستشفى لتلقي العلاج من الإصابات التي لحقت بهما. لكن أثار المعركة ظلت مخيمة على القرية كلها.

ظن أهالي القرية أن المعركة انتهت بعدما سالت الدماء التي بددت وشائج القربى، لكن مع حلول الليل لف خبر أسود أرجاء القرية كلها. كان الخبر المشؤوم يؤكد وفاة المزارع البسيط عبد الرحمن، متأثراً بجراحه في المستشفى بعدما فشل الأطباء في إنقاذ حياته نتيجة الضربة القوية بظهر الفأس على رأسه، ليتأكد الجميع أن المعركة التي بدأت في الصباح بين أفراد العائلة الواحدة ربما لن تنتهي قبل سنوات طويلة تعرف القرية فيها نهراً من الدماء.

وصل إلى سامر، الابن الوحيد للمزارع القتيل، الخبر المشؤوم أثناء تلقيه العلاج في المستشفى، طار عقله من رأسه فور علمه بخبر وفاة والده، إلا أنه رفض اتهام أولاد خالته بارتكابهم الجريمة. لم يكن سامر يفكر سوى في الانتقام من قتلة والده بيده، لذلك راح يؤكد لوكيل النائب العام الذي توجه للحصول على أقواله في المستشفى، أن وفاة والده الحاج عبد الرحمن مجرد قضاء وقدر، ولم يجد وكيل النيابة إزاء إصرار سامر على أقواله سوى حفظ القضية، وإخلاء سبيل المدرسين الثلاثة المتهمين بقتل زوج خالتهم.

عاد لينتقم

بعد أيام من تلقي العلاج، غادر سامر المستشفى. عاد إلى بيته، وارتمى في حضن والدته الفلاحة البسيطة باكياً لشعوره بالذنب أنه من تسبب في قتل والده. ولكنها حددت له الأهداف سريعاً وطالبته بالتوقف عن البكاء لأن لديهما الكثير من العمل. قالت له إن السبب في قتل والده هم أبناء خالته الثلاثة، وراحت تطالبه بضرورة الانتقام منهم، وتحثّه على رفض قبول العزاء في والده، مؤكدة أنهما لن يتلقيا العزاء في الأب الراحل إلا بعد أن ينتقم سامر من القتلة، وقالت له صراحة إن عليه قتل أبناء خالته الثلاثة.

تحوّلت كلمات الأم إلى حطب يشعل نيران غضب الشاب الريفي، فاعماه وامتلأ حقداً وكراهية ضد أبناء خالته، خصوصاً أن أمه تمسكت برؤية دماء أولاد أختها في أسرع وقت ممكن، قبل أن تبرد دماء زوجها القتيل. عمى الحقد قلبها فقررت أن تحرق قلب شقيقتها على أبنائها، حتى لو أدى ذلك إلى ضياع مستقبل ابنها الوحيد.

على الجانب الآخر، أحس المدرسون الثلاثة بتأنيب الضمير لتسببهم في وفاة زوج خالتهم، خصوصاً أنه مات في لحظة غضب طائش من الجميع، واتخذوا قراراً بضرورة التوجه إلى منزل خالتهم لتقديم واجب العزاء والاعتذار عن المشاجرة التي نشبت بينهم وبين زوج خالتهم الراحل، وتسببت في وفاته، لا سيما أن أياً منهم لم يقصد أن يتطوّر الأمر إلى اشتباك دموي.

لكن خالتهم وابنها سامر رفضا استقبالهم أو حتى الجلوس معهم أو الاستماع إليهم وقبول اعتذارهم، فعاد المدرسون الثلاثة بخفي حنين، وقد تأكدوا أن ابن خالتهم سامر يضمر الشر والانتقام لوالده منهم، وهو أمر فهمه بقية أهالي القرية بعدما رفض الابن استقبال الأشقاء الثلاثة وعدم قبوله العزاء في والده.

اجتماع ثلاثي

كان الأمر خطيراً فعلاً، لذا جلس الأشقاء الثلاثة يدرسون الأمر بجدية، بعدما أصبحت حيواتهم في خطر بسبب انتقام ابن خالتهم الوشيك. فكروا في الهرب، ولكن أسرهم ووظائفهم ومصالحهم في القرية وفي الأرض التي يتولون زراعتها بأنفسهم بعد وفاة والدهم حالت دون تنفيذ فكرة الهروب من القرية. كذلك كان صعباً عليهم أن يتحوّلوا من مدرسين لهم مركزهم الاجتماعي المحترم بين أبناء القرية إلى مجرد مطاريد يهيم الواحد منهم على وجهه، فضلاً عن صعوبة تحمل زوجاتهم وأبنائهم مرحلة عدم الاستقرار والتنقل من مكان إلى آخر.

الشقيق الأكبر جمع شقيقيه وقال لهما:

- لازم نلاقي حلاً وبسرعة للمشكلة دي. سامر ابن خالتكم متهور وممكن ياخد بالثأر بين لحظة وثانية!

رد الشقيق الأوسط قائلاً:

*أمنا هي الحل. تروح لأختها وتصالحها ونعتذر كلنا لها!

رفض الشقيق الأصغر هذا الاقتراح قائلاً:

خالتكم لن تقبل زيارة أمنا لها بعد قطيعة بينهما استمرت 5 سنوات.

بعد هذا الاجتماع، حاول الأشقاء الثلاثة أياماً طويلة البحث عن مخرج للورطة التي وجدوا أنفسهم فيها بعد مقتل زوج خالتهم. سعوا بشتى الطرائق إلى إبرام الصلح مع سامر، أرسلوا إليه بعض المعارف والأصدقاء المشتركين والأقارب، لكن الجميع عادوا برد واحد: سامر مصمم على الانتقام وأخذ ثأر والده القتيل، مهما كان الثمن!

انتظار وترقب

باءت محاولات الأشقاء الثلاثة لإثناء ابن خالتهم عن فكرة الانتقام بالفشل، ولم يكن إزاء المدرسين الثلاثة سوى انتظار موعد تنفيذ سامر قراره الذي أصر عليه مهما كان الثمن. كان الأشقاء الثلاثة يعيشون حياة الترقب والانتظار وكأنهم في انتظار تنفيذ حكم بالإعدام صدر ضدهم، لكن لا يعرفون موعده.

الترقب لم يكن يسيطر على حياة الأشقاء الثلاثة فحسب، بل هيمن على تفكير ابن خالتهم سامر، الذي أخذ يفكر طويلاً في كيفية الانتقام من أولاد خالته، لم يذق طعماً للنوم لأيام، ظلّ ساهراً يرسم الخطة وراء الأخرى حتى إذا ما نفذ فكرته عجزت الشرطة عن توجيه أي اتهام له. كان الشاب الغاضب يبحث في رأسه عن ارتكاب جريمة كاملة يعجز رجال المباحث عن اكتشافها أو توجيه تهمة القتل له بعد ارتكابها.

ولكن كما يقولون: تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فلم يدرك سامر أن الأقدار تحمل له الكثير من المفاجآت.

ذات ليلة؛ جلس داخل غرفته ممسكاً ببندقيته ينظفها كعادته استعداداً لليوم الذي يستخدمها في تصفية أبناء خالته انتقاماً، اختمرت في رأس الشاب فكرة جهنمية لتنفيذ جريمة مكتملة الأركان انتقاما لوالده، وحدد «ساعة الصفر» لعملية الانتقام من أبناء خالته، ورسم الخطة لاقتحام منزلهم مع الخيوط الأولى للفجر للإجهاز عليهم جميعاً وبلا رحمة. وبينما يجهز بندقيته حتى يتأكد من عملها في اللحظة المناسبة، فجأة ومن دون سابق إنذار خرجت رصاصة من البندقية التي ينظفها بلا قصد لتستقر في الجانب الأيسر من صدره!

اتهام خطير

سالت الدماء من جسد سامر بغزارة، وهرولت والدته إليه بعدما استيقظت مرعوبة على صوت الرصاصة لتجد ابنها الوحيد ملقى على الأرض في غرفة نومه يصارع الموت. أطلقت الأم صرخة هائلة شقت سكون الليل، وتجمع الجيران بأقصى سرعة حولها ونقلوا الابن المصاب إلى أقرب مستشفى، وهناك وبين أيادي الأطباء والممرضين نطق سامر بجملة واحدة وراح بعدها في غيبوبة. لكن الجملة التي نطق بها بصعوبة بالغة بسبب حالته الصحية كان لها وقع الصاعقة على الجميع، قال: «أولاد خالتي قتلوني».

وأبلغ الأطباء وكيل النائب العام الذي انتقل إلى المستشفى إلا أنهم رفضوا أن يستجوب المصاب لسوء حالته الصحية، بينما انطلقت والدته لتقول لوكيل النيابة إن أبناء شقيقتها حاولوا قتل ابنها، وأكد كلامها الأطباء والممرضون بالمستشفى الذين سمعوا الابن المصاب يردد الكلام نفسه قبل أن يغيب عن الوعي نحو أسبوعين كاملين.

وكيل النائب العام بناء على تحريات رجال المباحث وشهادة الأطباء والممرضين والممرضات بالمستشفى، قرر إلقاء القبض مجدداً على أولاد خالة المصاب، المدرسين الثلاثة، لسماع أقوالهم في الاتهام الجديد الموجه إليهم. بالطبع أنكروا الاتهام، ولكنهم لم يتمكنوا من تأكيد الإجابة عن السؤال المهم: أين كانوا وقت وقوع الحادث؟ أكدوا جميعاً أنهم كانوا في بيتهم لحظة إصابة ابن خالتهم الشاب سامر، وفشلوا في إثبات أقوالهم، كما أن كثيرين من أهالي القرية أدلوا بشهادتهم التي أكدت وقوع مشاجرة منذ أسابيع بين سامر وأولاد خالته، سقط خلالها والد سامر مصاباً ثم توفي متأثراً بجراحه في المعركة مع أبناء شقيقة زوجته.

أحيل المدرسون الثلاثة إلى محكمة جنايات دمنهور التي عقدت جلساتها، برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين أحمد أبو الفتوح وعماد خالد بتهمة الشروع في قتل ابن خالتهم سامر، وإزاء هيئة المحكمة أنكر المتهمون قيامهم بمحاولة قتل ابن خالتهم، وأكدوا أنه كان يخطط لاغتيالهم الواحد تلو الآخر اعتقاداً منه أنهم تعمدوا قتل والدهم في المشاجرة التي نشبت بينهم وبين الأب قبل أسابيع. وبعد جلسات عدة نجحت محاولات الأطباء في المستشفى في إنقاذ حياة الشاب المصاب سامر، وسمحوا لوكيل النائب العام باستجوابه بعدما استعاد وعيه.

ترقّب الجميع كلمات سامر، فما أن تخرج العبارات من فمه سيُحسم موقف أبناء خالته، وتقربهم من سجن يلتهم سنوات عدة من حياتهم. وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها المتهمون أنفسهم، أكد الشاب سامر لوكيل النائب العام الذي انتقل إليه لسماع أقواله أن أبناء خالته الثلاثة جميعهم أبرياء من محاولة قتله، واعترف بصوت واهن أن رصاصته خرجت بطريق الخطأ من بندقيته أثناء تنظيفها.

قال سامر في تحقيقات النيابة معه أنه رأى الموت بعينيه وكان قاب قوسين أو أدنى منه، ولذلك قرر، لو أنقذت حياته، تبرئة ذمة أولاد خالته من تهمة محاولة قتله، وكرر المجني عليه أقواله الجديدة التي جاءت إزاء هيئة المحكمة بعد أيام، لتقضي ببراءة الأشقاء الثلاثة من تهمة الشروع في قتل ابن خالتهم، وتنطلق الزغاريد داخل قاعة المحكمة، بينما راحت والدة سامر وخالة المتهمين الثلاثة تذرف دموعاً حارقة بعدما أفلت أبناء شقيقتها من حبل المشنقة للمرة الثانية على يد ابنها، التي كانت تحلم بأن يطفئ نار غضبها لمقتل زوجها، إلا أنه خذلها وأصابها بالحسرة ولم ينجح في الأخذ بالثأر لوالده القتيل.