داخل المستشفى الاستثماري الشهير، هرول المهندس جمال، ومن خلفه شقيقه الأصغر أستاذ الجامعة الدكتور محمود، وراء أحد الأطباء وراحا في لهفة يسألانه عن الحالة الصحية لشقيقهما الأكبر الأستاذ عبد المجيد، والذي نُقل منذ لحظات إلى غرفة العناية المركزة. ارتسمت علامات الحزن على وجه الطبيب وقال في أسى:-ربنا معاه... الحالة فعلا حرجة جداً. ادعوا له!
ترقرقت الدموع في عيون الشقيقين، وإن تظاهرا بالتماسك. ولكن بمجرد أن انصرف الطبيب وابتعد عنهما خرّ الشقيقان وتهالك كل منهما إلى أقرب مقعد أمامهما، ولم ينطق أي منهما بكلمة، إنما اكتفيا بتبادل نظرات الحسرة على حال شقيقهما الأكبر الذي كان بالنسبة إليهما بمنزلة الأب بعدما ضحى بحياته من أجل تعليمهما، ومد لهما يد العون حتى أصبحا رجلين مرموقين في المجتمع.انتهى مشهد الحزن الصامت بسرعة بمجرد وصول الحاجة عواطف، زوجة شقيقهما الأكبر ورفيقة رحلة كفاحه. مسح الشقيقان دموعهما بسرعة قبل أن تفضحهما إزاء زوجة شقيقهما، والتي كانت هي الأخرى بمنزلة الأم لهما بعدما غمرتهما بالحنان والرعاية، واقتربا إليها محاولين تهدئتها وطمأنتها على حالة شقيقهما.كانت عقارب الساعة في المستشفى الفخم تشير إلى تمام العاشرة مساء، إحدى الممرضات اقتربت إلى الحاجة عواطف وشقيقي زوجها، وطلبت منهم مغادرة المستشفى، خصوصاً أن مواعيد الزيارة انتهت ولا فائدة من وجودهم بعد الآن. وطبعاً، رفضت الحاجة عواطف مغادرة باب غرفة العناية المركزة قبل أن تطمئن على حالة زوجها.توسلت إلى الطبيب الشاب المسؤول عن غرفة العناية المركزة أن تلقي ولو نظرة على زوجها الذي يرقد على فراش المرض، وبعد شدّ وجذب سمح الطبيب للحاجة عواطف بإلقاء نظرة سريعة على رفيق العمر لم تستغرق سوى ثوان معدودة، وبعدها انطلقت الزوجة الباكية مع شقيقي زوجها لتغادر معهما المستشفى.
اتفاق الشقيقين
طوال الطريق إلى منزلها، لم تكف الحاجة عواطف عن البكاء رغم محاولات المهندس جمال والدكتور محمود تهدئتها وطمأنتها، وبمجرد أن وصلت إلى بيتها انطلق جمال بسيارته وإلى جواره شقيقه الأصغر ليتوقف بالسيارة في أحد الشوارع الهادئة وراح يجلس خلف عجلة القيادة شارداً بذهنه بعيداً.لم يفهم محمود سر توقف شقيقه بالسيارة فجأة، ولا سر شروده وصمته الرهيب، سأله:*فيه إيه يا جمال؟ أنت واقف بالعربية هنا ليه مش ناوي توصلني؟- اسمعني كويس يا محمود. أخونا الكبير هيموت. وأنت عارف حجم الثروة اللي هيسيبها لمراته وعياله. وعارف كمان أننا مش هينوبنا منها ولا مليم!كلمات المهندس جمال أدارت رأس شقيقه محمود الذي شرد بذهنه لبعيد هو الآخر ثم قال في أسى:* تخيل يا جمال أنا ما فكرتش أبداً فى الحكاية دي!- أعتقد أن ده الوقت المناسب أننا نفكر في مستقبلنا ومستقبل ولادنا إحنا كمان!* أيوه... بس إحنا في إيدينا إيه نعمله؟- في أيدينا كتير. بس تسمع كلامي في كل خطوة. وإحنا مش طمعانين. كل اللي هناخده من أخونا 2 مليون جنيه بس. كل واحد فينا مليون. متهيألي مش كتير بالنسبة للملايين اللي هيسيبها لمراته وعياله؟* طبعا مش كتير... دول ملاليم!اتفق الشقيقان على خطتهما، فأدار المهندس جمال محرك سيارته المتوقفة وانطلق مع شقيقه الدكتور محمود، عائدين إلى المستشفى الاستثماري. وبعد محاولات مضنية سمح لهما الطبيب المسؤول عن غرفة العناية المركزة بالدخول لرؤية شقيقهما الأكبر المريض بعد ما وعدا الطبيب بأنهما لن يتحدثا إلى مريضهما، وإنما سيلقيان عليه نظرة الوداع.زيارة خاطفة
بمجرد أن دخل الشقيقان إلى غرفة العناية المركزة، وما أن تركهما الطبيب للحظات حتى أخرج المهندس جمال ورقة من جيبه وسلمها إلى شقيقه الأكبر المسجى على فراشه، واعطاه قلماً وطلب إليه التوقيع، بعدها أوهمه بأنها مجرد إقرار طلبت إدارة المستشفى توقيع استلامه.لم يشك الشقيق الأكبر في الأمر، لم يشك يوماً في شقيقيه. وقع على الورقة من دون أن يقرأها أو حتى يحاول معرفة ما تحتوي عليه، وبصعوبة بالغة قال لشقيقيه الصغيرين جملة واحدة: «مراتي وولادي أمانة في رقبتكم».ربت الشقيقان على كتف شقيقهما الأكبر وطمأناه وعلى وجه كل منهما ابتسامة باهتة، وغادرا غرفة العناية المركزة قبل أن يكتشف الطبيب المسؤول الهدف من زيارتهما الغريبة لشقيقهما المريض. كانا يعرفان أن ما جرى في غرفة الإنعاش سر يجب أن يظل طي الكتمان، لا يعرفه غيرهما مهما كان الثمن.بعد ثلاثة أيام، انطلقت صرخات الحاجة عواطف داخل أرجاء المستشفى الاستثماري الشهير معلنة وفاة زوجها الأستاذ عبد المجيد، بعد صراع مضنٍ مع المرض الخبيث، وبكى الشقيقان جمال ومحمود شقيقهما الراحل وتلقيا واجب العزاء فيه، وأكدا للجميع أنهما فقدا أباً وليس أخاً أكبر لهما.ولم تمض أيام قليلة بعد انتهاء العزاء حتى توجه جمال برفقة شقيقه محمود، إلى منزل شقيقهما الراحل، وسلما زوجته الورقة المذيلة بتوقيع شقيقهما المتوفي، والتي تفيد اقتراضه مبلغ مليوني جنيه، من شقيقيه بحجة الإنفاق على مصاريف علاجه. لم تطمئن الحاجة عواطف إلى تلك الورقة، خصوصاً أن أحوال شقيقي زوجها الراحل المادية وإن كانت جيدة إلا أنها لا تسمح لهما بإقراض شقيقهما الأكبر مثل هذا المبلغ الكبير.مواجهة عاصفة
واجهت الحاجة عواطف الشقيقين بعدم اقتناعها أو تصديقها توقيع زوجها على مثل هذه الورقة بهدف سداد مصاريف علاجه، خصوصاً أنه لم يتحدث إليها في أمر تعرضه لأزمة مالية بسبب أزمته الصحية، وأنه لم يكن يخفي عنها أياً من أموره المالية المستقرة، فتأكدت أن وراء هذه الورقة أمراً مريباً.غضب المهندس جمال من موقف زوجة شقيقهما الأكبر، فيما التزم الدكتور محمود الصمت للحظات ثم قال للحاجة عواطف منفعلاً:*إحنا ما بننكرش أن المبلغ كبير فعلاً، لكن اللي أنتِ مش عارفاه يا مرات أخونا أن عبد المجيد، الله يرحمه، كان عاوز قبل ما يموت يأمن مستقبلنا... وهو اللي فكر يكتب لنا المبلغ ده!وقبل أن يستطرد الشقيق الأصغر في سرد حكايته الوهمية قاطعته الحاجة عواطف قائلة في استنكار:- عبد المجيد عمره ما حتى لمح لي بأنه عمل أو كان ناوي يكتب لكم فلوساً... وكمان ملايين!! أنتوا عاوزين تضحكوا على مين؟!. أنتوا ناسين إني أنا اللي مربياكوا؟!رد المهندس جمال على زوجة شقيقه الراحل في غضب:*ما هو علشان أنتِ اللي مربيانا يا حاجة عيب تتهمينا بسرقة أخونا الله يرحمه.لم تستمر المناقشة طويلاً بعدما وصلت إلى حائط مسدود. رفضت الحاجة عواطف الأرملة الحزينة تسليم شقيقي زوجها جمال ومحمود المبلغ المطلوب، نهرتهما بشدة وراحت تذكرهما بالخير الذي يعيشان فيه، هما وزوجتاهما وأولادهما بسبب شقيقهما الأكبر الذي كان لهما بمنزلة الأب، والأموال التي أنفقها عليهما وعلى زوجتيهما وأولادهما في صورة رواتب شهرية بآلاف الجنيهات على مدار كل السنوات الماضية.إزاء تماسك الحاجة عواطف وقوة حجتها، ثار الشقيقان جمال ومحمود في وجه أرملة شقيقهما الأكبر الراحل حتى لا يزيدا من شكوكها، وحاولا أن يدخلا في عقلها أن لهما الحق في شطر من ثروة زوجها الراحل، وهددا بأنهما سيقدمان تلك الورقة للمحكمة ليحصلا على حقهما بالقانون، لم تمانع الحاجة عواطف، التي صدمت في موقف شقيقي زوجها، وقالت بأعلى صوتها: «أعلى ما في خيلكم اركبوه».عناد الشقيقين
ركب الشقيقان جمال ومحمود رأسيهما واستمرا في عنادهما الذي أنساهمها أفضال شقيقهما الأكبر الذي أنفق عمره في تربيتهما، انطلقا إلى أحد أكبر المحامين في مصر، وسردا عليه قصتهما وقدما له الورقة التي وقعها لهما شقيقهما قبل وفاته بأيام، ووعدهما المحامي الشهير بحصوله على حكم لصالحهما قائلا لهما: «القضية صحيح مش سهلة بس موقفنا هيبقى قوي بمجرد حصولنا على تقارير طبية من المستشفى اللي كان أخوكم بيتعالج فيها، خصوصاً اللي بتأكد أنه رغم مرضه يمكنه التوقيع على الأوراق لأنه لم يفقد وعيه إلا لأوقات قليلة في أعقاب تلقيه بعض الأدوية».كلمات المحامي طمأنت المهندس جمال على موقفه وشقيقه من القضية، لكن الدكتور محمود كان على العكس من شقيقه، إذ شعر بأن موقفهما ضعيف رغم تأكيدات المحامي عكس ذلك، وراح يقول لشقيقه: أنا مش مطمن يا جمال... إحنا شكلنا اتسرعنا!رد جمال: اتسرعنا؟! إحنا لحقنا نفسنا على آخر لحظة كان هيبقي إيه الحال لو أخوك عبد المجيد مات قبل ما نحصل على توقيعه على الورقة إياها؟قال محمود وهو يمسح عرقه: أصل كمان المبلغ اللي كتبناه كبير ومش منطقي.قاطعه جمال قائلاً: أنت اللي بتقول كده يا دكتور... أنت إيه مش عارف العلاج في المستشفيات الاستثمارية بيتكلف قد إيه؟ وبعدين الـ 2 مليون مش مصاريف علاج بس لا دي مكافأة لينا على وقفتنا مع أخونا الكبير في مرضه... لازم ده اللي قلناه لمرات أخونا قبل كده يفضل كلامنا إحنا الاتنين قدام أي حد تاني حتى المحامي بتاعنا.شرد محمود بعيداً فأضاف شقيقه جمال قائلًا: وبعدين ما تنساش يا محمود أن فواتير المستشفى أنا وأنت اللي كنا بندفعها ونمضي عليها... اطمن اطمن أنا مرتب كل حاجة!قرار المحكمة
بعد أسابيع قليلة حصل المحامى الشهير للشقيقين على التقارير الطبية المختلفة من المستشفى الاستثماري الذي كان يعالج به شقيقهما الراحل عبد المجيد، توجها مع محاميهما الشهير إلى محكمة الجيزة الكلية، وأقاما دعوى قضائية طالبا فيها أرملة شقيقهما الراحل، الحاجة عواطف، بإعادة المبلغ الذي اقترضه منهما شقيقهما قبل وفاته نظير علاجه عدة أشهر من داء السرطان في المستشفى الاستثماري.وعقدت المحكمة برئاسة المستشار خالد الشباسي وعضوية المستشارين محمد ناجي وأحمد البدري، بأمانة سر أحمد سعيد أولى جلساتها، حيث نفت الأرملة الحزينة الحاجة عواطف مزاعم شقيقي زوجها الراحل، وأكدت أن زوجها المتوفي لم يوقع تلك الورقة مطلقاً التي يطالبان فيها بالحصول على مبلغ مليوني جنيه، وأضافت أن زوجها في نهاية أيامه كان يعاني غيبوبة، ولا يمكنه توقيع أو تحرير أي أوراق، وأنها كانت توقِّع على أي قرارات خاصة به بموجب توكيل عام حرره لها قبل سنوات عدة.وقالت الحاجة عواطف لهيئة المحكمة إن شقيقي زوجها كانا يسددان فواتير العلاج فعلاً أثناء فترة العلاج. ولكنها كانت تسلِّم لهما هذه الأموال، إذ إن حالتهما المادية لا تسمح لهما بدفع المبالغ الكبيرة التي كانت تطلبها إدارة المستشفى الاستثماري، فالمهندس جمال شقيق زوجها الأوسط موظف بسيط في إحدى الشركات الحكومية، وراتبه بسيط، كذلك الشقيق الأصغر الدكتور محمود في مقتبل حياته العملية، ولا يملك عيادة تدر عليه دخلاً كبيراً، ويعمل في مستشفى حكومي براتب متواضع أيضاً، فمن أين لصاحبي الدعوى بالملايين التي يطالبان بها؟ وطعنت الحاجة عواطف في الورقة التي عليها توقيع زوجها وقدمها الشقيقان للمحكمة.أحيلت الدعوى إلى التحقيق، وعُرضت الورقة على مصلحة الطب الشرعي لإعداد تقرير بشأنها، وجاء تقرير الطب الشرعي مؤكداً أن الورقة وقِّعت في توقيت مزامن لتدهور حالة الشقيق الأكبر، وهو ما أكدته تقارير العلاج في المستشفى، ما يعني أن الشقيق المتوفي وقّعها في فترة تدهور حالته الصحية، لتقضي هيئة المحكمة برفض الدعوى التي أقامها الشقيقان وإلزامهما بالمصاريف، وإحالة القضية للتحقيق مجدداً لبيان ما إذا كان الشقيقان استغلا مرض شقيقهما للحصول على أمواله من دون إرادته.انقلب السحر على الساحر. نظر محمود إلى شقيقه جمال، ولسان حاله يقول سبق أن قلت لك إننا سنخسر. جمال عضّ على نواجزه ثم أشاح بوجه بعيداً. في المقابل، لم تحتفل الحاجة عواطف بانتصارها على شقيقي زوجها، بل على العكس كانت في قمة الحزن والقهر من ضياع تربية زوجها لشقيقيه هباء إزاء شهوة الطمع. نظرت نحوهما ثم توجهت إلى باب المحكمة، وقالت في حزن: «يا خسارة!».