في حين تحوم أطياف أوديبية في كثير من المؤلفات الروائية والمسرحيات، ويمكن هنا الإشارة إلى «هامليت» أو رواية «البحار الذي لفظه البحر» للياباني يوكيو مشيما، وشخصية «كامل» في "السراب" لنجيب محفوظ، فإن مقاربة ما أطلق عليه عقدة ألكترا لم تكن بهذه الدرجة من الاهتمام. ولعلَّ الشخصية الروائية الوحيدة التي تحضر عندما يدور الحديث عن الحب المحرم، لا سيما حب البنت والدها أو زوج الأم، هي بطلة نابوكوف «لوليتا»، وقد يكون السبب وراء عدم الالتفات إلى هذا الموضوع أو التلميح إليه في مشهد خاطف، كما في بعض الروايات العربية، حساسيته ومبالغة بعض النُقاد في إسقاط الحدث الروائي على حياة الكاتب واختزال مُهِمَتِهم في التقاط ما يربط به بين المُنجز الأدبي وصاحبه. لذا يجوز تفسير تأخير نشر رواية «الرواية الملعونة» للكاتبة السورية أمل جراح من هذه الزاوية.
قيد الكتمان
كتبت أمل جراح روايتها الوحيدة عام 1967، حسب ما تُشيرُ إلى ذلك الكاتبة زينب عساف، غير أنَّها ظلت قيد الكتمان إلى أن عُثرت عليها بين أوراقها، وفاز العمل بجائزة مجلة «الحسناء» من دون أن يشفع له هذا التكريم بأن يظهر إلى العلن، حتى رحلت صاحبته في 2004. يبدو ظاهرياً أن ليس في مصلحة الرواية أن تتأخر هذه المدة كلها، لكنّ للأمر وجهاً إيجابياً إذ يولد تشوقاً لدى المتلقي لمعرفة ما تضمهُ الرواية التي لم تُنشرْ قبل رحيل مؤلفتها، ما يُضاعفُ من عنصر الأثارة. يتصاعدُ التوتر الدرامي مع مُتابعة الوقائع والأحداث، والإنصات إلى هسيس الرغبات المكتومة لدى بطلة الرواية حنان، التي يوكل إليها سرد المادة من خلال ضمير المُتكلم وترتيبها وفقاً لوحدات منجمة من دون وجود العناوين الفرعية. كذلك تمكنت الكاتبة من الزج بالمتلقي في دائرة الافتراضات حول ما تشعرُ به شخصية الأب عزت، فالأخير رجلُ أرمل أظهر تفوقاً كبيراً في مهنته المحاماة، يعيشُ مع ابنته الوحيدة بعدما باغت مرض مميت زوجته وأودى بها. ولا تفوضُ أمل جراح بطلتها باستبطان شخصية عزت إنما تقدمُ على لسانها صفاته الخارجية التي تكسبهُ قدراً كبيراً من الوسامة والجاذبية، وذلك ما أهله للظفر بقلب طالبة سحرت الشباب في الجامعة عندما كان يدرسُ في المرحلة الأخيرة في كلية الحقوق.تفتح الرواية بعبارات وجمل تعبرُ عن حالة تعلق حنان بأبيها، كذلك يرتبطُ ازدياد هذه الرغبة بما يتغيرُ في الجسد ويكرسُ خصوصيته الجنوسية. تضعك الساردة في مُناخ البيت الذي صار خالياً إلا من الاثنين بعدما تزوج أخواها وسافرا إلى خارج دمشق، وذلك ما تصبوُ إليه حنان، أي ألا يشارك أحد حياتها مع عزت وتُحاول التعتيم على كل ما يُذكرُه بزوجته الراحلة. لذا تحرص على مُغادرة أم حسن البيت، وتعيد ترتيب الكتب والأشياء كأنّها بذلك أرادت رسم خريطة جديدة للمنزل لا تحملُ لمسات الأم، والغرض من هذا كله إسدال الستار على زمن معبق بأنفاس الأم.تعتمدُ الكاتبةُ على تقنية الاسترسال في المونولوج والحوار لتبيان المستوى النفسي لدي الشخصيتين، لا سيما ما يعتمل في أعماق البطلة من حالة الاصطراع الداخلي، إذ يتضح من الحوار المُتبادل بين الأب وابنته الجامعية وجود مخاوف لدى الأول مما يسميه الذئاب المُفترسة للبراءة. كذلك تستشفُ قلقه من أن يفوز أحد الشبان بحنان ويبقى وحيداً، بالمُقابل تتوارد كلمات وعبارات تنمُ عن حالة إعجاب الابنة بأبيها، إذ تعتقدُ بأنَّ لا أحد يشبهه لا الزميل الذي يتودد إليها ولا أستاذ الأدب العربي ولا محاضر الاجتماعيات. ولا ينتهي الأمر بإبداء الإعجاب إنما يتمركزُ السرد المطبوع بالذاتية حولَ حالة فوران الجسد الراغب في الانصهار داخل ما هو محرمُ عليه، وما الحرام برأي البطلة إلا الشقاءُ بينما الحلال هو أن يكون الإنسان سعيداً. لذا فهي تتمسك بحبها من دون الإعلان عنه تفادياً لوصمة الشاذة والمجنونة.إلغاء الأم
لا يكتمل انتصار حنان على أمها، كذلك إلغاؤها تماماً إلا بعد إقصاء صورتها وإبدالها بأخرى تجمعها بالأب، ومن ثُمَّ تكشفُ حركة السرد عن مزاحمة الابنة أمها ومحاولاتها كسب شخصية الأب منذ الطفولة. كذلك ترمي من خلال تصرفاتها وكتابة الشعر وقراءته إبلاغ رجلها المثالي بأنها منذورة له ولا تتخذ غيرَهُ حبيباً. ومع مضي الأحداث يشتدُ الصراع النفسي لدى حنان، خصوصاً بعدما يصحبها الأب لمشاهدة فيلم «رجل وامرأة»، وهو امتداد لثيمة الرواية، ومع الإسراف في الشرب تعلوُ أصوات الرغبة ونداءات الجسد أكثر وتصبحُ الألفاظ المعبرة عن تلك الحالة محملةً بدلالات إيروتيكية صارخة.وشأنَّ مُعظم الأعمال التي تتناول موضوع الحب بموازاة الغيرة والموت فإنَّ أمل جرّاح نجحت في إثراء نصها عبر الإيماء إلى ما يرافق الابنة من الخوف في فقدان الأب، والغيرة من صديقتها هيفاء التي تتوددُ إليه، ويحومُ الموتُ في تلافيف السرد مع اكتشاف ما تعانيه البطلة من مرض القلب الذي يهدد حياتها الغضة، ويستدعي خضوعها لجراحة خارج البلد.يُذكر أن الكاتبة برعت في رصد هذه المشاهد المُفعمة بالترقب والتوسل إلى القدر وإظهار القلق والمخاوف التي رزحت بالأب، وهو يرى ابنته على عتبة المجهول، وذلك يبعد العمل من ورطة أُحادية الثيمة والتنميط ويشرّعُ أفق النص لتأويلات متعددة.وكما أشرنا لا يلتقطُ القارئ ما يوحي بخروج مشاعر عزت عن طبيعتها الأبوية سوى ما تتوهمه حنان. يُذكر أن الشاعرة أمل جراح وفقت في تنظيم روايتها الوحيدة وفقاً لبرنامج سردي متماسك يخدمهُ التنويع في التقنيات من الاسترجاع، والحوار، والمونولوج.