دون كيشوته العربي (1 - 2)
"دون كيشوته" لم يكن شخصاً محتالاً أو رديئاً. مشكلتُه أنه شغل نفسه ووقته بقراءة الكتب، وهو شاغل رائع، دون أن يوفر رابطاً بين قراءته وبين حياته الواقعية، كذات ومحيط موصول بالزمان والمكان. أي أنه لم يوفر حداً أدنى من التوازن بين ذاكرته على الأرض ومخيلته في الفضاء. كان يعيش في "لامنشا" في الريف الإسباني، غارقاً في كتبه عن الفروسية والفرسان، ونتيجة لهذا الغرق فقد توازنه العقلي، فغلب خياله على ذاكرته. ركب فرساً عجوزاً، وتسلح بخردوات توهّمها أسلحةَ فرسان، وهام في البراري كمنقذ. وحكايات معاركه الوهمية التالية صارت على كل لسان. المقاربةُ بين "دون كيشوته" هذا وبين الكثير منا كمثقفي أفكار ومثقفي أدب، منذ خمسينيات القرن العشرين حتى اليوم، تبدو، على ما فيها من حقيقة، على قدر من المبالغة، حتى لتبدو محرجة. ما يخفف من الحرج أنها مقاربة تقتصر على مرحلة، ولا تتسع لما سبقها. لأن الذين سبقوها ولدوا ونشأوا في حياة سياسية، اجتماعية وثقافية متعافية نسبياً. مرحلة تواصلت فيها نهضة مطلع القرن العشرين بصورة من الصور، في عدد من البلدان العربية. وكانت أبرز مزايا هذه العافية هي العلاقة الصحية مع ثقافة الغرب المتفوق. كانت أجيال مرحلة النهضة تتطلع، من أرض واقعها التي تعرفه ولا تتحرّج من تخلفه، إلى الغرب لتتعلم وتتقدم. وإذا ما احتاجت إلى ما يشدُّ عزيمتها للمواصلة فلديها تراثها العربي الإسلامي. لم تكن تشعر بالعيب فتسعى بسببه إلى ادعاء "الندّية"، بفعل ارتكاس سايكولوجي، مع الغرب. هذا الشعور بالعيب كان أحد ثمار مرحلة الثورات الانقلابية (وكانت شاملة التأثير) التي شدّت عروقنا إلى الكرامة الإيهامية، وإلى التعالي، بل التفوق، الإيهامي على الغرب. (راجع الشواهد في فصل "مرايا حداثة الستينيين 2" من كتابي "ثياب الإمبراطور"، دار المتوسط).
من أنقاض ثقافتها هذه خرج المسكين "دون كيشوته" العربي، دون حاجةٍ لفرس هزيل وعدة محارب مضحكة، ودون حاجة لكتب مركونة في الرفوف. خرج في عصر يسّر الغربُ فيه كل ما يحلم به "دون كيشوته" من كتب، ووسائل نقل، وتواصل اجتماعي لملاحقته ومُحاكاته. كما أن مرحلة "الثورات الانقلابية" قد أنجبت ما يكفي من دكتاتوريات، وحروب أهلية، وتيارات دينية متطرفة، كفيلة بدفع الملايين كلاجئين إلى الغرب. وبقدر ما تعالى الغرب قامةً، وصار حاضنة، بقدر ما تعالت الكرامة الإيهامية وتجذر انفصام الشخصية لدى "دون كيشوته" العربي البائس. فصارت "ندّيتُه" الإيهاميةُ السابقة مع الغرب "تفوقاً" إيهامياً على الغرب، وامتلأ الشارع العربي، على مدى عقود، بالكتب الفكرية والنقدية، التي لا تحاور كتّاباً عرباً، بل كتاباً منتخبين من الغرب، يمثلون، وهذا شرط ضروري، آخر نظريات الفكر النقدي الغربي التي عرفتها باريس وأميركا من بعد، على أن تتوافر هذه الكتب على ميزتين عجيبتين: أن تستعصي على القراءة، وأن يكون هذا الاستعصاء بدوره إغواءً لاقتنائها وتزيين المكتبة بها؛ لأن العرف الذي تبنته هذه الكتب وكتابها أن "المعنى" قيمة متدنية. (شاعر كبير يعيب على الكتابة العربية في القرن العشرين أنها "نوع من الغرق في "طين" المعنى. باسم الموضوعية، أو المنطق والعلم"). "دون كيشوت" العربي معاصر، لا يُحوجه الوهم إلى قطيع أغنام، ولا إلى طاحونة هواء. فهذه وغيرها تنتمي إلى الذاكرة، ابنة المكان والزمان، وقد طلقها هو بيسر. وهمُه ملء الخيال، الذي يستوعب كل ما يطمع به من فكر مجرد، قادر على خلق لغة عربية مجردة، لا تماس لها مع واقعها، داخل جسد كاتبها، أو في الحياة المحيطة. يكفي أنها تحكي عما لا يخطر ببال أحد، وتقترح حلولاً للفكر الذي لا وجود له، وتتماهى مع الالتباس اللغوي كي لا تبين. "تقبض على الخيال معجوناً في وردة تتفتح بين يديك، أو ترى إلى الكلمات كيف تنسكب نبعاً، أو تتعالى شجراً..."، كما يعاود الشاعر الكبير. إحدى دور النشر وضعتْ من صورة "دون كيشوته" شعاراً لها، كتبت تحته: "لنحارب معاً طواحين الهواء". هل هي دعابة سوداء، واعية أو غير واعية؟