من غزة إلى القدس بطولة شعب لا يقهر
لم تكسر المجزرة الوحشية التي ارتكبها جيش الاحتلال في الرابع عشر من مايو إرادة مئات الآلاف من أهل قطاع غزة البواسل، ولم يفلح رصاص الاحتلال وقنابله في منع عشرات الآلاف من المشاركة في مظاهرات المقاومة الشعبية في مدن الضفة الغربية. فغدا يوم الذكرى السبعين للنكبة، وما رافقه من نقل للسفارة الأميركية للقدس، يوم وحدة كفاحية لنضال الشعب الفلسطيني في كل مكان. ورغم ارتقاء اثنين وستين شهيدا من أطفال ونساء ورجال، وصحافيين، ومسعفين وإصابة نحو ثلاثة آلاف متظاهر، شهد يوم الجمعة الأولى من رمضان تجدد مظاهرات مسيرة العودة الكبرى في غزة، واندفاع عشرات الآلاف من كل أنحاء الضفة الغربية نحو القدس للصلاة في المسجد الأقصى، وكثيرون منهم، خاصة الشباب، اخترقوا الحواجز وتسلقوا جدار الفصل العنصري ليصلوا إلى القدس.
في أول جمعة من رمضان، وبعد أربعة أيام على المجزرة الوحشية التي ارتكبها جيش إسرائيل وحكامها شعرنا بوحدة الشعب الفلسطيني الميدانية، والنفسية، والكفاحية، وحدة الشعور المشترك، والهدف المشترك، والوطنية الصادقة المشتركة. شاهدنا البطولة المقدامة لأهل غزة المستبسلين في العطاء رغم الرصاص وقنابل الغاز ورغم الحصار الخانق، وندرة الكهرباء، وتلوث المياه، وانتشار البطالة، وانقطاع الرواتب. وأصر أبناء شعبنا وبناته في حيفا وغيرها من المدن في الداخل على الخروج في مسيرات شدت الانتباه بقوتها وصلابتها في وجه قمع الاحتلال. وفي باحات المسجد الأقصى وشوارع القدس القديمة رأينا جموع الرجال والنساء والشباب والأطفال في سيل بشري هادر نحو الأقصى، غير عابئين بالحشود الهائلة من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح. ومن بينهم التقيت والدة أحد الجرحى الذين جاؤوا من غزة لتلقى العلاج في الضفة، وقد أصرت أن تأتي للصلاة في الأقصى، وبأم ثانية جاءت بابنتها من غزة لعلاجها من مرض السرطان في مستشفى المقاصد، واقتنصت بضع ساعات لتحقيق حلمها بالصلاة في الأقصى ثم هرولت عائدة لرعاية ابنتها في المستشفى، بعد أن روت لي قصصا تقشعر لها الأبدان عن جرحى ومرضى لم يسمح لهم بمغادرة غزة لتلقي العلاج. وفي شوارع القدس التقينا بنساء من منطقة بيت لحم جئن تسللا لبيع خضرواتهن في شوارع القدس، وأخريات من قرى الخليل يحاولن بيع الملبن، وفي كل زاوية وشارع كان هناك مقدسيون صامدون بواسل من أصحاب محلات البلدة القديمة يصرون رغم الضائقة الاقتصادية، ونار الضرائب الباهظة، وقمع جنود الاحتلال، على البقاء والصمود وحماية القدس وعروبتها. وفي باحات المسجد الأقصى انتشر المئات من المتطوعين والمتطوعات الشباب، الذين تدربوا على الإسعاف الأولي في الإغاثة الطبية والهلال الأحمر وغيرها من المؤسسات، يقدمون الإسعاف لكل من يحتاج، ومثلهم متطوعون يستبسلون كل جمعة في إسعاف الجرحى أمام مستعمرة بيت إيل، ولكنهم جاؤوا منذ الثالثة صباحا ليساعدوا المصلين المرضى على اجتياز الحواجز والوصول للقدس. من غزة إلى القدس تشكلت ملحمة نضالية لشعب مصرّ على الحياة، ومصرّ على الصمود، ومصرّ على الانتصار.ملحمة يصنعها الناس العاديون البسطاء الذين قد لا يتقنون فن الحديث، ولا يحظون بالظهور على شاشات التلفزة، ولا يحملون مناصب أو ألقابا قيادية، ولا يتمتعون بأي امتيازات، ولكنهم جميعا يحملون في قلوبهم الناصعة حبا صادقا لفلسطين، وللقدس، وللحياة، ويصنعون ببساطتهم وعفويتهم وانشغالاتهم بأمور الحياة الصغيرة أعظم مأثرة في الصمود والعطاء والنضال، دون أن يشعروا، ربما، بذلك أو يتفاخروا به.في شوارع القدس القديمة، التي تتآخى فيها كنيسة القيامة مع المسجد الأقصى، تذكرت ما كتبه المؤرخون عما ارتكب فيها من مجازر على يد الغزاة، وعما وثقوه من تسامح لصلاح الدين عندما تحررت على يديه، وأدركت أننا شعب لا يقهر، ولم يقهر يوما، ولن يقهر أبدا. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية