دقائق وخرج الطبيب من غرفة الكشف وعلى وجهه علامات الأسى، فقفز الأسطى «سيد» من مكانه وقد تسلل القلق إلى ملامح وجهه وهرول في اتجاه الطبيب وراح يسأل في لهفة:خير يا دكتور... طمني في إيه؟
نكس الطبيب رأسه إلى الأرض وأجاب بكلمة حزينة:لازم عملية جراحية... ولازم نعملها بسرعة جداً!انقبض قلب الأسطى «سيد». صمت لحظات ثم قال بصوت مخنوق بالدموع:والعملية دي خطيرة... يعني في خطر على حياة مراتي؟وحاول الطبيب طمأنة الزوج الملهوف وقال وابتسامته الباهتة ترتسم على وجهه الحزين:ربنا كبير. ادعيلها... إن شاء الله خير !لحظات من الصمت دارت بين الطبيب والزوج ثم عاد الطبيب يقول:العملية كبيرة وفيها نسبة خطورة طبعاً... ودي ح تتكلف 15 ألف جنيه... بس أهم حاجة زي ما قلت لك لازم نعمل لها العملية بسرعة. التأخير فيه خطر على حياتها.
تكلفة الجراحة
غادر سائق سيارة الأجرة الأسطى «سيد» وزوجته عيادة الطبيب، وراح السائق البسيط يفكر في أهم أمر. من أين سيأتي بمبلغ العملية الجراحية المطلوب لإنقاذ حياة زوجته وأم أولاده؟ هل يعرض سيارته الأجرة للبيع ويفقد مصدر رزقه؟ كيف يتصرّف في هذه الورطة الكبرى؟عندما توقّفت سيارة الأجرة إزاء منزل الأسطى «سيد» وزوجته كان الزوج اهتدى إلى الحل الأمثل. طلب من زوجته أن تصعد إلى شقتهما وأخبرها بأنه سينطلق إلى شقيقه الأكبر في مدينة الاسماعيلية كي يستدين منه مبلغ العملية الجراحية.حاولت الزوجة ثني زوجها عن فكرته قائلة بصوت متعب:** يا سيد الحكاية مش مستاهلة. صدقني أنا كويسة واقدر استحمل الألم. ما فيش داعي يا أخويا تتديّن علشاني.ربت الأسطى «سيد» على كتف زوجته قائلاً في حنان:- ما تشغليش بالك انتِ. إن شاء الله هتعملي العملية وتقومي لي ولأولادنا بألف سلامة... علشانك يا غالية كل شيء يهون.وطلب الأسطى «سيد» أن تصعد إلى الشقة وتنتظر عودته صباحاً، وأن ترتاح ولا ترهق نفسها. ونفذت الزوجة أوامر زوجها وتركته ينطلق بسيارته إلى شقيقه الأكبر بمدينة الإسماعيلية.تأمين المبلغ
في منزل الشقيق الأكبر بمدينة الإسماعيلية، جلس الأسطى «سيد»، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يروي لشقيقه الأكبر التاجر الكبير الآلام الرهيبة التي تشعر بها زوجته المريضة منذ فترة طويلة. وراح «سيد» يشكو له عجزه وقلة حيلته وهو يرى زوجته تتألم بينما هو لا يستطيع عمل أي أمر لها. حتى مبلغ العملية الجراحية المطلوبة لإنقاذ حياة زوجته لا يملك منه سوى 5 الآف جنيه.لم ينتظر الشقيق الأكبر أن يستمع إلى بقية تفاصيل قصة شقيقه الأصغر مع مرض زوجته. لم يكذب التاجر الكبير خبراً... وراح يربت بحنان على كتف شقيقه الأصغر «سيد» وذهب إلى غرفة نومه وعاد ببقية المبلغ وسلمه له.احتضن «سيد» شقيقه الأكبر بقوة ووعده بسداد المبلغ في أقرب فرصة وابتسم الشقيق الأكبر قائلاً له بابتسامة حانية:** على أقل من مهلك يا أخويا... ما تزنقش نفسك علشاني. أنا فعلاً مش مستعجل على المبلغ. أهم حاجة نطمن على مراتك إن شاء الله.بكى الأسطى «سيد» وهو يحتضن شقيقه الأكبر الذي أنقذ حياة زوجته أم أولاده، ثم قرر أن يعود إلى منزله بمدينة الزقازيق رغم تحذير شقيقه الأكبر من السفر ليلاً في طريق الإسماعيلية – الزقازيق الصحراوي... وأن «النهار له عينين»، كما يقولون!ولكن الأسطى «سيد» طمأن الشقيق الأكبر وأكّد له أن المسافة لن تستغرق الساعة وأنه يفضل السفر ليلاً إذ تكون الطرق خالية وممتعة لقيادة السيارات. وفعلاً انطلق الأسطى بسيارته الأجرة عائداً إلى مدينة الزقازيق حتى يبيت ليلته وسط زوجته وأولاده... ورغم أنه اتخذ قراراً بعدم ركوب أي شخص معه في طريقه فإنه خشي أن تتملك منه الوحدة ويغلب عليه النعاس في الطريق، فتوقّف بسيارته الأجرة عندما أشار إليه ثلاثة شبان في الطريق وقفوا جميعاً ينادون عليه بصوت واحد:# الزقازيق يا أسطى؟وتوقف الأسطى «سيد» بسيارته على جانب الطريق.كانت عقارب الساعة وقتها تقترب من الواحدة والنصف صباحاً عندما استقل الشبان الثلاثة سيارة الأسطى «سيد» ليقلهم في طريقه إلى مدينة الزقازيق.في الطريق دار حوار معتاد بين الشبان الثلاثة وسائق سيارة الأجرة. كان الكل يحاول قتل وقت السفر والتحدث إلى السائق كي لا يغلبه النعاس أثناء القيادة. كلمة وراء الأخرى، توجس الأسطى «سيد» خيفة من حديث الشبان الثلاثة، خصوصاً عندما ذكر أحدهم بعفوية أنه خرج منذ يومين من السجن بعد قضائه 10 سنوات بتهمة الشروع في القتل!لم تمض دقائق حتى بدأ الأسطى يشك في أمر الشبان الثلاثة. بدأ السائق يقلِّل من كلماته من خلال الحديث الدائر بين الشبان الثلاثة، إذ تبين له أن الشابين الآخرين شريكان في معظم أعمال ثالثهما الذي خرج من السجن قبل يومين... ورويداً رويداً انقطع الحديث تماماً. تهرب «سيد» من الإجابة عن أسئلتهم أو عن الرد على حديث يدور بين الشبان الغرباء الثلاثة. وإن حاول جاهداً عدم إظهار الرعب الذي كان ملأ قلبه تجاههم فعلاً.وحاول الشبان الثلاثة جر الأسطى إلى حديثهم كثيراً، ولكنه كان مشغولاً بسيناريو مرعب يمرّ في رأسه مثل شريط السينما عن مصيره مع الغرباء الثلاثة. وفي كل مرة كان السائق الخائف يرد عليهم باقتضاب شديد طوال الطريق. حتى جاءت اللحظة التي توقّعها الأسطى «سيد» عندما سمع الشاب الذي يجلس في المقعد المجاور له يقول في حدة:* إركن على اليمين شوية يا أسطى!وفي ذعر ردّ السائق قائلاً:- خير... هو فيه حاجة؟لم يرد الشاب حاد الملامح والصوت. بسرعة أخرج مطواة «قرن غزال» من جيبه ووضع نصلها على رقبة الأسطى «سيد» الذي توقّف فوراً على جانب الطريق وراح يقول في هلع:- ليه بس كده... السلاح يطول!بمجرد أن توقفت السيارة الأجرة على جانب الطريق قفز الشابان الجالسان في الخلف وأحاطا بالأسطى وقال أحدهما بعنف وبتهديد واضح وصريح وهو يشهر مطواه في يده في وجه السائق المذعور:# شوف يا أسطى قدامك حاجة من اتنين. انت بهدوء كده تدينا العربية وكل الفلوس اللي معاك... وإلا ناخد عمرك!***ورغم أن الاختيار كان صعباً، فإن الأسطى «سيد» لم يستغرق سوى ثوان معدودة ليتخذ قراره إزاء المطاوي التي تحيط به من كل جانب. هبط السائق من السيارة وأخرج من جيبه بضعة جنيهات هي حصيلة تعبه طوال اليوم، وطبعاً حاول جاهداً إخفاء مبلغ العشرة آلاف جنيه الذي استدانه من شقيقه الأكبر قبل ساعات كي يجري العملية الجراحية لزوجته المريضة.ولكن حيلة الأسطى «سيد» لم تنطل على اللصوص الثلاثة، إذ فتّش أحدهم بحرفية كبيرة وأخرج المبلغ من جيبه وأمسك به قائلاً بسخرية:# والفلوس الحلوة دي مالناش نصيب فيها يا أسطى ولا إيه؟حاول الأسطى «سيد» أن يشرح للصوص لماذا أخفى عنهم هذا المبلغ وأهميته بالنسبة إليه، ولكن قبل أن ينطق سائق سيارة الأجرة بكلمة فوجئ بأحد اللصوص يعاقبه بضربه من المطواة على رأسه أسالت الدماء على وجهه!ملأ الرعب قلب الأسطى «سيد» عندما شاهد الدماء تسيل من رأسه. أدرك وقتها أن اللصوص سيجهزون عليه. بكى بحرقة، وتوسل إليهم أن يتركوه لحال سبيله بعدما سلّمهم كل ما يملك. ولكن اللصوص الثلاثة قالوا له بصوت واحد:# مش ح نموتك بس بشرط واحد، تسيب لنا كل هدومك يمكن تكون مخبي فلوس تانية معاك!اعتقد السائق أن اللصوص يمزحون ولكنهم فعلاً كانوا جادين في طلبهم، والتفت يميناً وشمالاً ربما يجد أي شخص يستغيث به، ولكن كيف لصحراء مثل تلك التي يقف فيها أن يسمع بها صراخ مولود ابن يومين كما يقولون. حاول الأسطى «سيد» المماطلة، ولكن ضربة أخرى من مطواة في يد أحد اللصوص في جانبه الأيمن جعلت السائق المسكين يخلع كل ملابسه تنفيذاً لأوامر اللصوص.كان مشهداً قاسياً، انتهى بأن قفز اللصوص الثلاثة داخل السيارة الأجرة من جديد وانطلقوا بها بأقصى سرعة تاركين الأسطى «سيد» يقف بملابسه الداخلية في الطريق الموحش ينزف الدماء من رأسه وجانبه الأيمن وقواه تخور شيئاً فشيئاً حتى سقط على الأرض فاقداً الوعى!في المستشفى
بعد ساعات، أفاق سائق سيارة الأجرة الأسطى «سيد» ليجد نفسه فوق سرير بغرفة بمستشفى الزقازيق العام. وعرف أن سائق إحدى السيارات على طريق الإسماعيلية- الزقازيق عثر عليه ملقى على جانب الطريق فنقله إلى المستشفى... وبمجرد أن سمحت حالة الأسطى «سيد» الصحية بالكلام راح يدلي بأوصاف الجناة لوكيل نيابة الزقازيق أمير المؤمنين حسن، والذي كلف بدوره رجال مباحث الزقازيق بسرعة البحث وإلقاء القبض على اللصوص الهاربين.القبض على اللصوص
مرت أشهر ساءت خلالها حالة زوجة الأسطى «سيد» تماماً وأوشكت على الموت بعدما فقد زوجها سيارة الأجرة التي كان يعيش منها، كذلك فقد مبلغ العشرة آلاف جنيه الذي استدانه من شقيقه الأكبر. وفقد الأمل في العثور على الجناة الهاربين، ولكن رجال مباحث الزقازيق تمكنوا بعد جهود مضنية من إلقاء القبض على اللصوص الثلاثة بعد ارتكابهم جريمة مماثلة على الطريق نفسه وكان ضحيتهم الجديدة تاجر فاكهة.استدعي الأسطى «سيد» إلى سراي النيابة للتعرف إلى الجناة، وكاد المسكين أن يفتك باللصوص الثلاثة إزاء جهات التحقيق بعدما أكد أنهم الغرباء الثلاثة الذين سرقوا أمواله وسيارته... ولم ينكر الشبان الثلاثة جرائمهم، وأحيلوا إلى محكمة جنايات الزقازيق التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار حسني أبو الوفا وعضوية المستشارين محمد أنور أبو سحلي وحامد ربيع.وفي جلسات المحاكمة اعترف اللصوص بجرائمهم التي ارتكبوها منذ فترة طويلة على طرق الزقازيق – الإسماعيلية الصحراوي... وأكدوا أن سيارة الأجرة التي يملكها الأسطى «سيد» والتي استولوا عليها تحت تهديد السلاح باعوها كأجزاء لتجار الخردة بمدينة بلبيس وأنهم انفقوا ثمنها على سهراتهم في الملاهي الليلية بمدينة القاهرة، لتقضي هيئة المحكمة بمعاقبة اللصوص الثلاثة بالسجن المشدد 10 سنوات لكل منهم... ويخرج الأسطى «سيد» من قاعة المحكمة مسرعاً إلى المستشفى بعدما تلقى اتصالاً هاتفياً عاجلاً يفيد بأن زوجته نُقلت إليها بعدما تدهورت حالتها الصحية. وفي المستشفى يستقبل الطبيب السائق المسكين بجملة واحدة حزينة قائلاً:- البقاء لله... المرحومة كان لازم تعمل العملية في أسرع وقت!