جاسوسة
لا أفهم أياً من الممارسات الدينية الغائرة في الطقسية والتي لم أختبرها في محيط عائلتي الصغيرة في يوم، إلا أن شعوراً مضحكاً بأنني سفيرة إيران في الكويت ينتابني كلما أعلنت رأياً أو أبديت توجهاً، فهذا الظل الفارسي يظللني دوماً ويبدو أنه العدسة التي من خلالها يحكم الناس على أفعالي.
سيبدو هذا المقال دفاعياً وربما هو كذلك، سيبدو شخصياً وهو فعلاً كذلك، إلا أنني أود أن يكون له بعد أعمق ليسائل حالة نعيشها جميعاً، حالة نخلقها ونعانيها، وكلنا فيها متورطون. عشت أنا معظم طفولتي في مصر، حيث كان والداي يتحصلان على إجازتيهما الجامعيتين، والدي من القاهرة ووالدتي من الإسكندرية، حتى أنني كنت حتى سن العاشرة لا أتحدث سوى باللهجة المصرية. كنت أجاهد لفهم جدتي لوالدتي التي كانت تتحدث العربية المكسورة والفارسية الساحرة، بدت لي جدتي كأنها سيدة قادمة من عمق أسطوري لتحكي لي حكايا عبقة من عالم خفي بلغة محببة مهجنة بالكاد أفهمها وبكل أنفاسي أعشقها. كنت أشعر بغربة وسط عائلتي الكبيرة في الكويت لاختلاف طبائعي ولتهجن لهجتي، هذا غير شكلي الذي كان دوماً مدعاة تندر بقامتي التي فاقت في طولها معظم نساء العائلة ورجالها وبامتلائها وبتجعد شعري بعض الشيء الذي اختلف عن حرائرية شعر معظم فتيات العائلة، وهذا موضوع آخر تماماً. في المدرسة تلقيت العلوم الدينية على المذهب السني، وهي معلومات وممارسات ما حاول والداي تغييرها أو تبيان اختلافها مع الممارسات المذهبية لعائلتي، كان لوالدي إضافة واحدة لهذه الدروس الدينية، حيث كان يجمعنا بعد غداء كل يوم جمعة ويأتي بخريطة ويحكي لنا قصص التنقلات والمعارك والتغييرات الجغرافية، فكان أن تحول الحسن والحسين وعلي وعمر وخديجة وعائشة وأبو بكر ثم بقية الأئمة وأهل بيت الرسول لشخصيات ساحرة خلابة، كنت أراها بعين طفولتي تغير التاريخ وتقدم التضحيات حتى تحولت جميعها لشخصيات مجازية تقدم مبادئ وأفكارا أكثر منها تقدم شخوصاً حقيقيين.
مر الزمان في لحظة، أكملت دراستي في الخارج لأعود وأنشط في العمل العام والكتابة المقالية. مثل غيري تفاعلت مع كل ما يدور حولي، كنت أكتب بقلم حار حول التطرف الديني في المنطقة، ارتديت شعارَي الليبرالية والعلمانية على صدري أصد بهما (على اعتقادي الذي لا يزال) كل تحزب وتعنصر وتمييز. كتبت في 2006 نقداً لاذعاً لحزب الله في سلسلة مقالات أوقعت شقاقاً لربما لن يندمل بيني وبين أحبة سابقين. التحقت بحملة ليان لتفقد أحوال اللاجئين السوريين في طرابلس وكتبت ولا أزال حول جرائم النظام السوري بحق السوريين والمنطقة والإنسانية بأكملها. وقفت مساندة لحق البحرينيين في التعبير والثورة ودفاعاً عن أهل البحرين الذين غيبتهم السجون والمنافي. كتبت ناقدة بقسوة نظام الولي الفقيه في إيران ورفضت دعوات رسمية مدفوعة بالكامل للمشاركة في رحلات ثقافية الى إيران يرتبها المكتب الثقافي للدولة في الكويت، وذلك احتجاجاً على الدور الإيراني المريع في مجازر سورية. اعتصمت من أجل غزة وحلب، وقفت في ساحة الإرادة أشاهد وليد الطبطبائي يرفع حذاءه في وجه السفير الروسي، كتبت أدافع عن حق العريفي والحبيب وإن كرهت أفعالهما، كتبت أحتج على سحب الجنسية من نبيل العوضي، وقفت كمعارضة حكومية مع مجاميع ما كنت أتصور، ولا هم تصوروا بكل تأكيد، أن يجمعني بها موقف أيديولوجي من قبل. اعتصمت من أجل حقوق المرأة ومن أجل حقوق البدون الكويتيين، اعتصمت عند سفارة فلسطين وعند سفارة الولايات المتحدة، اعتصمت في ساحة الإرادة وفي ساحة تيماء، كتبت عن مواقف سياسية ونيابية، عن حياتي الشخصية، عن أعمال فنية وعن أفكار علمية، عن السينما والتلفزيون، وصولاً الى اليوم، كتبت أشير لإعلان أذيع مع بداية الشهر الكريم يصور كوارث إنسانية متعددة متورط فيها قادة العالم الذين يمد لهم الإعلان (كما فهمته) أصابع الاتهام بالإجرام، وسأكتب في المستقبل إن امتد العمر وسأعتصم وأحتج، وسأبقى دائماً، دائماً وأبداً، رافضية متخفية.ليس هذا مقال شكوى، على العكس تماماً، فالحكم المسبق علي، لربما حكم طبع على جبيني منذ ولادتي، ليس له تأثير عظيم في حياتي. أعيش برضا وأمارس عملي بسعادة وأربي أولادي بحرية نسبية. لست أشعر باضطهاد مباشر في الواقع، لكنها إشارات صغيرة خفية، تطفو على السطح بشدة أحياناً فتفاجئني ولا تغضبني، تضبب الأجواء أحياناً فأعلم أنها تقف بيني وبين حق من حقوقي، تلوث الهواء بين حين وحين فأرى أثرها اجتماعياً في حكايا أولادي أو في بعض العلاقات الاجتماعية من حولي، لكنها كلها معاناة طفيفة لا تذكر، لا أفكر فيها بعمق إلا حين أبدي رأياً فأتحول فجأة إلى حفيدة كسرى عظيم الفرس. في الواقع لم يسبق لي زيارة إيران من قبل (وإن كنت أتمنى ذلك من كل قلبي)، لا أتحدث الفارسية الجميلة وبالكاد أفهمها، لا أفهم أياً من الممارسات الدينية الغائرة في الطقسية والتي لم أختبرها في محيط عائلتي الصغيرة في يوم، إلا أن شعوراً مضحكاً بأنني سفيرة إيران في الكويت ينتابني كلما أعلنت رأياً أو أبديت توجهاً، فهذا الظل الفارسي يظللني دوماً ويبدو أنه العدسة التي من خلالها يحكم الناس على أفعالي وآرائي مهما قلت ومهما فعلت.ليس هذا في الواقع امتعاضاً، فأصول عائلتي الفارسية ليست مدعاة إحراج كما أنها ليست مدعاة فخر، هي أصول بشرية مثلما لكل البشر أصول تمتد بهم الى سمكة أولى، كما تقول صغيرتي ياسمين، كائن بحري هو الجد الأول لكل الكائنات على سطح الأرض بحسب النظرية الداروينية؛ لذا لا أرى مدعاة لفخر أو لإحراج من أي أصل، هو امتداد جيني لا فضل لي فيه ولا ذنب، ولا معنى له ولا قيمة مطلقاً. المثير في الموضوع كيف أن هذا الأصل الذي لا يد لي فيه ولا يعني لي شيئاً يلاحقني إن وقفت مع ثوار البحرين أو إن وقفت مع ثوار سورية، إن انتقدت الإخوان المسلمين أو إن انتقدت حزب الله، إن اعتصمت مع المعارضة وحتى إن اعتصمت مع البدون، دائماً أنا إما متآمرة أو متزلفة، متآمرة وأنا لا أستطيع تركيب جملة فارسية كاملة على بعضها مع الأسف.ينعاد عليكم الشهر الكريم بكل محبة ورضا، ما هي تصنيفاتكم يا ترى؟