تفكيك أسطورة ابن سبأيحتل التفكير التآمري جانباً كبيرا من الخطاب الديني السائد، فهناك دائماً مخططات تآمرية خفية تحاك من قوى كبرى، تضمر العدواة للمسلمين، وتزرع الفرقة بينهم، وتسعى إلى تقسيم دولهم، وتتحكم في مقدراتهم، وتستنزف ثرواتهم.
يرسخ الخطاب الديني على الدوام أننا "أمة مستهدفة" بدءاً من الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا، ويعرض العديد من الشواهد التاريخية قديماً وحديثاً: مؤامرات يهود المدينة، والفتنة الكبرى 30- 36 هجرية، وسقوط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك 1924م، وبروتوكولات حكماء صهيون، ووعد بلفور، واتفاقية سايكس بيكو. يؤكد الخطاب الديني أن الفتنة الكبرى التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان، رضي الله تعالى عنه، وتداعياتها في حربي الجمل وصفين، وراءها شخص واحد، هو عبدالله بن سبأ، لقب بـ"ابن السوداء"، يهودي من صنعاء، أظهر الإسلام واندس بين المسلمين، متنقلا بين الشام والحجاز والمدينة والكوفة والبصرة ومصر، مفسداً ذات البين، محرضاً الناس على عثمان، وطاعناً في الولاة والأمراء، داعياً إلى ولاية علي كرم الله تعالى وجهه، باعتباره وصياً للرسول عليه الصلاة والسلام، ومبشراً بعقيدة رجعة النبي، واستطاع أن يؤلب الثوار على عثمان، واستمال بعض الصحابة إلى دعوته، منهم: أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وكان هذا منشأ الغلو في علي، والتشيع له.ما حقيقة أسطورة ابن سبأ؟ إن عماد أسطورة ابن سبأ روايات سيف بن عمر التميمي، المتوفى 170 للهجرة، وكلها مصدرها راويا واحدا، هو سيف! ما قيمة مرويات سيف؟ وما رأي علماء الحديث والنقاد فيه؟ هو عند جميع علماء الحديث ونقاده: ضعيف الحديث، متروك، متهم بالزندقة: بدءاً بابن معين المتوفى 233 هجرية، مروراً بأبي حاتم، والنسائي، وأبي داود، وابن عدي، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وابن عبدالبر، وابن حجر، والسيوطي، وانتهاء بصفي الدين المتوفى 923 هجرية. إضافة إلى رأي العلماء فيه فإن سيفاً قد اختلق روايات تسيء إلى الصحابة والمسلمين، منها: 1- صور العرب خارج الحرمين، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام قد ارتدوا، وما أرجعهم إلى الإسلام إلا السيف وحده، مما اتخذه الطاعنون حجة للقول إن الإسلام انتشر بالسيف، وتحسين حديث مكذوب: بعثت بالسيف وجعل رزقي تحت ظلال رمحي، الذي يصور المسلمين قطاع طرق، يعتاشون على الحرب والسلب والمغانم، في تناقض تام مع القرآن الكريم الذي يقول لرسول الإسلام والسلام "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ويصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بأروع وأعظم ما وصف به إنسان "وإنك لعلى خلق عظيم". 2- وزعم أن خالد بن الوليد قتل الأسرى في حرب المرتدين، واتخذ من رؤوسهم أثافي للقدور، مصوراً الجيش الإسلامي بالإسراف بالقتل والعنف وعدم الرحمة، كما اختلق أسماء صحابة، طبقاً لمرتضى الزبيدي في كتابه عبدالله بن سبأ.ختاماً: هناك عوامل موضوعية وراء الفتنة الكبرى لا دهاء يهودي، فسياسة عثمان هي التي هيجت الأمصار وأشعلت الفتنة، وكان رضي الله تعالى عنه، ضحيته، لا مكر يهودي أتى من صنعاء! كيف أمكن تصديق هذه الأسطورة المهينة لعقلية الصحابة الكرام؟! وهل الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، بهذه السذاجة كي يوقع بينهم ابن سبأ هذا؟! كيف يعقل أن شخصاً واحداً، يأتي من صنعاء، يغوي الصحابة، ويوجه الثوار إلى قتل الخليفة، ويثير كل تلك الفتن والحروب بين المسلمين، لتبقى آثارها الجانبية إلى اليوم؟! إن الذين حملوا وزر الفتنة الكبرى لابن سبأ، إنما هالهم ما وقع من ثورة الأمصار، ومقتل عثمان، وتنازع المسلمين، والحروب التي أسالت الدماء وأسقطت ضحايا، وحولت الخلافة إلى ملك عضوض، فقرروا أن يسدلوا الستار عليه، بحجة أن الكل اجتهد، وأن يرموا مسؤوليته على يهودي! تماما كما نقول اليوم: إسرائيل وراء "داعش" وكل مصائبنا، ولا نصدق أن "داعش" إنتاج أوضاعنا! وأن مصائبنا بما كسبت أيدينا، ومن عند أنفسنا، وأنه لن تتغير أوضاعنا إلا إذا غيرنا ما في أنفسنا. * كاتب قطري
مقالات
قضايا ومعوقات تجديد الخطاب الديني (14)
21-05-2018