رمضان مختلف
ربما عبر العقود الثلاثة الأخيرة، اكتسب شهر رمضان سمتاً أبعد ما يكون عن روحه وجوهره. ومؤكد أن ثورة المعلومات والقنوات الفضائية التلفزيونية لعبت دوراً محورياً في ذلك، بينما ألقت وسائل التواصل الاجتماعي بظلها الكبير على طبيعة الشهر الفضيل. رمضان شهر الصوم، وشهر القرآن الكريم، وشهر صلاة التراويح، وشهر الخشوع، وشهر صلة ذي القربي، اكتسى حلةً جديدة، لافتة ومغايرة تماماً لما يُفترض أن يكون عليه.شهر رمضان صار شهراً تصرفُ فيه الأسر الإسلامية على مأكلها، في طول وعرض البلدان الإسلامية، ضعف ما تصرف في الأشهر الأخرى. وصارت أيامه ولياليه عامرة، على مدار الساعة، بالمسلسلات التلفزيونية، التي لا علاقة لها البتة بطبيعة الشهر وعوالمه. مسلسلات تلفزيونية، تتخذ من الشهر المقدّس فرصة تكسب مالي صارخة، علماً بأن مجموعة كبيرة من هذه الأعمال تسقط في مستنقع السطحية التي تصل إلى حد الابتذال، فضلاً عن مجموعة أخرى، تتخذ من التفكّه عنواناً لها، بينما تقدّم عروضاً مخزية تثير الدهشة أحياناً لوقاحتها، ومسّها بالآخر؛ شخصه ولكنته وممارسات حياته. وأخيراً، فإن الصحافة اليومية الورقية تحديداً، تتخذ لنفسها شكلاً يخالف شكلها المألوف طوال العام، في محاولة منها لمسايرة شهر رمضان. فهي بدل أن تكثّف مقالاتها، وبالتالي صفحاتها، فإننا نرى معظم الصحافة العربية تتوسع في أبوابها في شهر رمضان، مضيفة أبواباً جديدة، حتى أن الجريدة اليومية تأتي أحياناً بضعف عدد صفحاتها المألوف، علماً بأن الأبواب المزادة هي أبواب مكررة في معظمها وبعيدة عن اهتمام الإنسان العربي في وقتنا الراهن.
المظاهر الرمضانية أعلاه، وما لحق بها في السنوات الأخيرة من عوالم شبكات التواصل الاجتماعي، صارت تقدم شهر رمضان بشكل مختلف عما يجب أن يكون عليه من القداسة والهدوء والتأمل. بل إن حياةً جديدة درجت عليها أجيال من الناشئة والشباب، تتمحور حول مواصلة السهر ليلاً وحتى الفجر أمام شاشات التلفزيون والشاشات الأصغر للتلفونات الذكية، وفي تجمعات الصداقات الضيقة، مما يجعل ليل رمضان مجالاً لسهر المتع العابرة، ونهاره لنوم بعيد كل البعد عن روح الشهر. وهذا يأتي منسجماً مع طبيعة العمل في الدوائر الرسمية والأهلية، حيث السكون والهدوء والتغيب عن العمل، الذي يصل إلى حد تعطيل مصالح الناس!غريب شهر رمضان، يمرّ عابراً مخالفاً لطبيعة باقي الأشهر، لكنه يُفترض أن يكون فسحة للإنسان لفترة تغيير يعيشها، علها تقدم جديداً لنمط حياة اعتاد عليه. رمضان شهر الصيام، بمعناه الجسدي ومعناه الروحي الأسمى، في كون "منْ صام صامت جوارحه"، وفي النموذج الأجمل للسلوك الرمضاني واتخاذ مقولة "اللهم إني صائم" رداً على كل ما يواجه المسلم من أمور حياتية مزعجة. وأخيراً رمضان شهر قراءة القرآن بتأمل يليق بلحظة العصر الذي نحيا، وما تستحق من مطابقة ما جاء في الكتاب الحكيم مع الحياة الماثلة اليوم أمامنا، فكلنا يردد مقولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان"، دون أي يمعن النظر في تطبيق هذه المقولة في روح النص القرآني وكيفية استنباط سلوكيات تنسجم تماماً مع روح وتعاليم الدين الإسلامي، وتواكب بشكل حقيقي روح العصر الذي صار يوصف بأنه "قرية كونية".فتّحت عينيَّ في بيت تدين، كون والدي كان إمام مسجد، وكونه ينحدر من أسرة معروفة بالتدين، وكم كان سلوك أبي البسيط مغايراً في رمضان. فالرجل الحاد المزاج أكثر ما يكون هدوءاً وسعة صدرٍ في رمضان. والرجل العاشق لنبض الحياة، أكثر ما يكون تأنياً في رمضان. يمضّي جل نهاره في قراءة القرآن، ويبتعد في تهجده ليلاً في صلاته ودعائه، متجنباً أي ادعاء أو تظاهر. وهو إضافة إلى ذلك أكثر ما يكون قرباً ووصلاً بأهله وأصدقائه في رمضان.الصورة التي رسمها سلوك أبي ومعه ملايين المسلمين في رمضان، خلقت لديّ قناعة بقدسية الشهر واختلافه، وأين هذا فيما صرنا نعيش من رمضان زماننا الحاضر؟