تتصاعد سحب سوداء من الدخان في سماء ميانمار، وطوابير من الناس تمتد على مد البصر، بعضهم يحمل أغراضاً منزلية كالأواني أو الحقائب البلاستيكية، وأكثرهم لا يحمل شيئاً. هؤلاء الناس في طريقهم إلى مخيم للاجئين في كوكس بازار في بنغلاديش، وهو مكان موحل كثير التلال ومكتظ بالناس، يعيش فيه الآن مليون إنسان.
ما أريده منكم الآن هو أن نقف لبرهةٍ لنلقي نظرة على هذه الأزمة من منظور طبي، لنرى بشراً مستضعفين لا حيلة لهم وبحاجة للمساعدة. نحن منظمة أطباء بلا حدود؛ وهي منظمة طبية لا جماعة حقوق إنسان، قد يبدو هذا الفارق واضحاً لكنني غالباً ما أشدد عليه للتأكيد على حقيقة أن اهتمامنا الأساسي هم مرضانا وعلاجهم، وهذا لا يعني أننا لا نتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان عندما نشهدها، بل إن تبليغ الشهادة يعتبر أحد مبادئ عملنا الأساسية، فنتحدث عن الظروف التي نشاهدها، ذلك أن أولويتنا الأولى بلا منازع هي الحفاظ على حياة الناس. ما نؤمن به هو أن نقل أحداث معينة، حتى لو كان ذلك عكس تيار الإعلام أو كان شوكة تنخز في جنب حكومة ما، هو أمر جوهري إذا كان سيؤدي إلى تأمين الرعاية الطبية لمزيد من الناس، وفي الوقت الراهن علينا أن ننقل الظروف الحرجة التي يعيشها اللاجئون الروهينغا في مخيم اللاجئين في بنغلاديش، حيث يضيق المخيم بساكنيه ولا يجدون تحتهم سوى التراب أو الطين، ولا تظلهم سوى صفائح بلاستيكية، ولا يتوافر لديهم الماء النظيف أو الصرف الصحي. لعل أسوأ جوانب الأزمة الحالية هو ألا شيء جديداً فيها، فمنذ نهاية السبعينيات كان الروهينغا يتعرضون لموجات من العنف المتعمد تتبعها موجات لجوء من ميانمار، إلا أن الموجة الحالية هي الأكبر، وبعيداً عن جانب العنف لا يعتبر خيار العودة مغرياً: فالروهينغا محرومون من الجنسية في ميانمار، وبالتالي محرومون من الحقوق والخدمات الأساسية. سبب هذه المشكلة هو الوضع السياسي، لكنه ليس المرض الذي نحاول علاجه، فهذه الفئة من الناس لم تكن تحصل على الرعاية الصحية، وإن حصلت عليها فبالحد الأدنى، وقلة قليلة حصلت على اللقاحات التي نعتبرها روتينية ويأخذها أطفالنا بشكل معتاد.ولتبيين الأثر الذي تركه عدم حصولهم على اللقاحات، يمكننا تأمل مسألة لافتة للنظر: وهي تفشي الدفتيريا بين اللاجئين الروهينغا في بنغلاديش (حتى فبراير كانت "أطباء بلا حدود" قد عالجت نحو 5.000 شخص من الدفتيريا في كوكس بازار). وإن مجرد وجود هذا المرض لهو أمر مُخجِل، فهذا النوع من الأمراض لم يعد موجوداً تقريباً في الدول الغنية، ومن باب المقارنة لم تشهد المملكة المتحدة خلال العشرين عاماً الماضية سوى أربع حالات من الدفتيريا، وقبل عام 1942 (ومعرفة اللقاحات) كان هنالك ما معدله 55.000 إصابة سنوياً، ينتج عنها ما يقارب 3.500 وفاة (معظمهم من الأطفال)، وهذا يعطينا لمحة عن عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها إذا ما تم تقديم الرعاية الطبية الملائمة للروهينغا بطريقة مستدامة. ومن الأسباب الأخرى التي تثير القلق اكتظاظ المكان وعدد الناس الساكنين في مخيم اللاجئين هذا، لا سيما في ظل غياب الخدمات الأساسية، وقد كان توفير الماء النظيف والصرف الصحي أولوية لفرقنا منذ شهر أغسطس، وبالرغم من التحسن الذي طرأ فإنها ما زالت بحاجة إلى المزيد من العناية، وما زالت أمراض العدوى التنفسية وأمراض الإسهال والأمراض الجلدية سائدة بين قاطني المخيم، وجميعها ذات صلة بالظروف المعيشية. المرض والعدوى ليسا مصدر القلق الوحيد للروهينغا، فكثيرون منهم بحاجة للعلاج من الضرر النفسي البالغ، فقد شهد العديد منهم موت فرد من أفراد الأسرة بطريقة عنيفة، ويحمل الكثير من الناس آثاراً بدنية وجروحاً غير ملتئمة من عنف تعرضوا له، فقد شهدوا أصنافاً شتى من الاعتداءات: تعرضوا لإطلاق النار والطعن والاغتصاب والضرب وحتى الاعتداء بالسيوف. جميع هذه المشاكل ذات صلة بشكل خاص بهؤلاء اللاجئين، وسيحتاجون رعاية طبية متواصلة، ومع ذلك تبقى المشاكل الطبية العديدة الأخرى التي تترافق مع الحياة اليومية، والتي لا يمكن أن تتوقف بسبب وجود أية أزمة. فالنساء الحوامل في المخيم سيحتجن علاجاً ورعاية مستمرين، والأطفال والبالغون في المخيم يحتاجون إلى توافر المرافق الطبية والكوادر الطبية.بالطبع لا بد من حل سياسي إذا ما أردنا رؤية تغيير دائم في وضع الروهينغا، لكن ما يشغلني هو المشاكل المباشرة التي يمكن معالجتها أثناء وجود الروهينغا في مخيم اللاجئين، لا سيما مع احتمال أن يبقى الوضع قائماً لسنوات لا أشهر. ولعلّي الآن قد تحدثت بإسهاب عن القضايا الطبية التي تحتاج إلى عناية، لكن أمراً لم أتحدث عنه بعد قد يكون بالأهمية ذاتها بالنسبة إلى مقدم العلاج الطبي، ألا وهو حق الكرامة. ففي عام 2013 وصفت الأمم المتحدة أقلية الروهينغا بأنها واحدة من أكثر الأقليات اضطهاداً في العالم، وهو تصريح قوي بلا شك، لكن في اعتقادي أننا نحتاج إلى فعل أكثر من مجرد تقديم بيانات الإدانة التوصيفية، فالسكان العالقون في جحيم ذلك الوضع المريع لم يشهدوا الكثير من الفوائد الملموسة لتلك البيانات. لا أقول إن علينا تجاهل القضايا السياسية التي تعتبر السبب الكامن وراء هذه الأزمة، لكنني أطلب أن نوجه تركيزنا فوراً على البشر الذين عانوا الكثير وأن نضافر الجهود لتقديم ما يفي باحتياجات هذه الفئة من الناس. يحتاج الروهينغا إلى الرعاية الطبية العاجلة، ولديهم الحق في الحصول على ظروف معيشية كريمة، ولهم علينا أن نهتم بهم كأفراد لديهم احتياجات فردية، لا أن ننظر إليهم كعالة على البشرية، وإذا ما توافرت الإرادة والتوافق لتحقيق تلك الأشياء، فجميعها تقع ضمن نطاق استطاعتنا. لمزيد من المعلومات حول أزمة الروهينغا الإنسانية، تفضلوا بزيارة موقعنا الإلكتروني: www.msf-me.org* المدير التنفيذي لمنظمة أطباء بلا حدود في الإمارات.
مقالات
ثقوا بنا فنحن أطباء
23-05-2018