تنوير : ظاهرة «مو صلاح» (1)
دعونا من قصة النجاح التي يعرفها الجميع، ومن المهارات الفردية المدهشة والقدرة العجيبة السلسة على تسجيل الأهداف، ولنبدأ من إجابة لافتة قدمها اللاعب المصري عن سؤال: ما الفرق بين اللاعب المصري والعربي عموما وبين اللاعب الأوروبي؟ فكر مو صلاح قليلا (وهو أمر غريب في ثقافاتنا العربية عموما أن يفكر الشخص قبل أن يجيب عن سؤال)، قال: ليس الفرق في المهارات، ثم أشار بسبابته إلى رأسه، وقال: الفرق هنا، الفرق في العقل.محمد صلاح شاب مصري من أبناء الطبقة المتوسطة الريفية، امتلك حلما وآمن بقدرته على تحقيقه، قال صلاح لمحاوره: إنه لم يكن الأكثر مهارة بين أقرانه في صباه، لكنهم جميعا اختفوا. أصر صلاح على حلمه، وتحايل على واقع ثقافي معاد للإبداع، وتمكن من تطوير قدراته المهنية (بدنيا ومهاريا، وفكريا) حتى جاءته فرصة الاحتراف.
هنا يختلف صلاح في تعامله مع الثقافات الغربية عن تيارين كبيرين في الثقافات العربية. التيار الأول رأيته في عشرات من أساتذة الجامعة الذين راقبتهم بتعجب شديد وهم يعلنون أنهم عاشوا سنوات في الغرب الأوروبي والأميركي وفي الشرق الياباني من دون أن يتأثروا بأي شيء على الإطلاق، وأنهم عادوا كما ذهبوا بالضبط. كانوا يقولون ذلك بفخر بدا لي جنونا خالصا، فكيف لإنسان أن ينغلق على منظومته الفكرية والسلوكية منفصلا عن الجديد الذي يحيطه بصورة كاملة؟ كيف لكائن عاقل أن يهدر فرصة النظر والتعلم والتفكر وتطوير الذات؟ هل الجمود ورفض الآخر بصورة فوقية زائفة هو مما يستوجب الفخر؟ وهل مثل هذه الشخصيات هي ما يعول عليه في "تطوير" عقول أبنائنا؟ التيار الثاني يفتخر أصحابه بتشرب كل ما قابلوه في الغرب بلا تمييز، حتى أنهم أصبحوا مسوخا باهتة لأسوأ ما تنتجه الثقافات الغربية وتصدره لنا. إنهم يتنصلون من ثقافاتهم العربية بصورة تطهرية، ربما لمعرفتهم بسوءاتها ومعاناتهم منها، أو ربما لانبهارهم المطلق بالغرب، النتيجة في الحالتين واحدة، هناك استلاب وحالة مسخ واضحة لا يحترمها الغربيون أنفسهم. "مو صلاح" تركيب دال على تحقق المعادلة التي يقترحها يحيى حقي في قنديل أم هاشم بأن نأخذ كل ما يمكننا من أدوات التطور الغربي من دون فقدان هوياتنا الثقافية بصورة كاملة تقود للذوبان. تعلم اللاعب من الغرب بحرص ثقافي شبه غريزي، طور نفسه، أخذ بأسباب النجاح، أخلص، أتقن، وأصر على أن يسجد كلما أحرز هدفا وأن يحافظ على صلات المودة والتكافل بينه وبين أسرته وأهل بلدته. لم يكن هشا حد الانغلاق أو الذوبان، بل كان قويا ببساطة من يملك موهبة يعرف أنه يملكها. إن التحولات التي أصابت محمد صلاح بين بازل وتشلسي وفيرونتينا وروما وليفربول لمما يستحق التأمل والرصد في مسيرة هذا اللاعب الموهوب. المدهش في هذا المسار أنه كان يرى قدراته رؤية واضحة لا مبالغة فيها ولا تهوين، ويعتمد العمل والعلم لتطويرها. حين سأله المحاور عن طعامه، قال إنه يأكل بصورة صحية، وحين سأله عن التدريب، قال إنه يقوم بتدريبات تفوق أقرانه بما يوازي ساعتين يوميا على الأقل. محمد صلاح لاعب مصري شاب رفضه واحد من أندية مصر الكبيرة في بداية حياته لحسن حظه وحظنا به، فجازف بالاحتراف، وتعرف على الثقافات الغربية المنتظمة الداعمة للكفاءات وانسجم معها من دون أن يفقد شخصيته ذات الجذور الشرقية، فتحول من "محمد صلاح" إلى "مو صلاح" الظاهرة الملهمة لملايين الشباب حول العالم.(يتبع)