تلا رحيل "ماو" في سبتمبر 1976 صراع مرير على السلطة، وظهر "دنغ هيساو بينغ" Deng Xiaoping الإصلاحي الاقتصادي باعتباره القائد، وتولى "دنغ" إدارة حزب شيوعي لا يزال متعلقاً بالماوية، غير أنه بدا وكأنه ليس القوة الفاعلة للتغيير، وكان الحزب قد طرده في عهد "ماو" مرتين ضمن حملات التطهير، بل أرسله للعمل في مصنع جرارات، بيد أن الأفكار الكبيرة لهذا الرجل ضئيل الجسم، تقول "روبين ميريديث" في مقارنتها بين الصين والهند، "غيرت مجرى التاريخ في أواخر القرن العشرين". (الفيل والتنين، ص30). عندما تولى "دنغ" رئاسة البلاد كان 80% من سكان الصين لا يزالون فلاحين فقراء في حالة مأساوية يعيشون في المزارع الجماعية، وظلت الأسر الصينية التقليدية "تسكن بيوتاً جدرانها من الطمي وأسقفها من القش وأرضياتها قذرة"، وكان متوسط دخل العامل السنوي 16 دولاراً، والكثيرون منهم يهاجرون إلى المدن "التماساً لفرص أفضل للتسول"!
امتدّ حُكم ماو سبعة وعشرين عاماً، وقد حقق ماو هدفه في إنشاء مجتمع المساواة بين أغلبية الصينيين، كما تقول المؤلفة، "ولكنه إذ فعل هذا دفع بالشعب الصيني إلى مصير جعل منه بعضاً من أفقر الشعوب على ظهر الأرض".وحث "دنغ"، الزعيم الجديد، على تبني إصلاح اقتصادي مزيج من الاقتصاد الموجّه واقتصاد السوق، ووزعت أراضي المزارع الجماعية على العائلات، وبات مسموحا لهم بحق اختيار أي المحاصيل يزرعونها، وبدأ الفلاحون بعد ذلك يدفعون الضرائب بدلا من تحويل حصتهم إلى المزارع الجماعية، وأخيراً ألغى "دنغ" احتكار الدولة لشراء وبيع المنتجات الزراعية، وارتفع دخل الفلاحين ما بين 1978-1984، وأصبح لديهم المزيد من المال وحق الاختيار. وقنع البعض بترك الفلاحة، وبعد أن أصبح مباحاً للفلاحين ترك حقولهم ظهرت داخل الريف محال صغيرة، ومعامل صغيرة لصناعة الآجر والأطعمة، ومع الوقت، بعد 25 سنة من بداية هذا الإصلاح، توافر في الصين قرابة 22 مليون مشروع أعمال من هذه المشروعات الصغيرة، تستخدم نحو 135 مليون عامل، أصبحوا أفضل حالاً بعد التغيير، واختفت المساكن ذات الجدران المصنوعة من الطمي، وحلت محلها بيوت جدرانها من الآجر، بعضها مزود بالكهرباء. ويرى بعض الخبراء أن هذه كانت بداية النهضة الصينية الجديدة أو صحوتها الاقتصادية، ويقول دافيد زفيغ مدير المركز الصيني للعلاقات عبر الدولية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في هونغ كونغ: "أدت الإصلاحات في الريف إلى إطلاق أكبر ظاهرة انتعاش سكاني عرفها التاريخ". وتحسنت معيشة مئات الملايين في الصين بفضل هذه الإصلاحات الداخلية، ولكنها كانت لا تزال خافية لا يراها الغرب بوضوح وسرعان ما شرعت الصين في ربط اقتصادها ثانية ببقية العالم. (الفيل والتنين، ص33).كان "هيساو دنغ" يدرك أهمية تحديث الصين منذ البداية، وتطلع إلى خارج حدود الصين، ففي نوفمبر 1978 زار بانكوك وكوالامبور وسنغافورة، وقام دنغ بجولة في أنحاء سنغافورة، ووجد في البلد نموذجاً حديثاً تكنولوجيا جديراً بأن تقتدي به الصين لتطوير نفسها. واتخذت الصين موقفاً لتوفيق أوضاعها بشكل جذري وقوي، وقد ودع رئيس وزراء سنغافورة "دنغ" في المطار، وبعد الزيارة توقفت صحيفة الصين الرسمية "بيبولز ديلي Peoples Daily، عن الإشارة إلى قادة سنغافورة بأنهم "خدم الإمبريالية البريطانية - الأميركية"، وعمدت بدلاً من ذلك إلى الحديث عن إنجازات البلد في بناء إسكان ملائم وبأسعار مقبولة. تقول "ميريديث": "بينما كان دنغ يحاول في عام 1992 الإسراع في الإصلاحات، أرسل ما لا يقل عن أربعمئة وفد صيني متفرقة- من المحافظين ورؤساء البلديات وسكرتارية الحزب وغيرهم من الرسميين- إلى سنغافورة خلال سنة واحدة ليشاهدوا، في تعجب، الصورة التي يمكن أن تكون عليها الصين بعد التحديث.والتمس دنغ، البرغماتي دائماً، سبيلا إلى تقدم الصين من خلال اتخاذ خطوات متواضعة ومدروسة جيداً وفي تروٍّ، متجنباً أسلوب غورباتشيف في التغيير على نحو فجائي وشامل لكل البلد، وبعد أن بدأ دنغ بالإصلاحات الزراعية شرع يجرب منهجه في الإصلاحات الصناعية". (الفيل والتنين، ص34).ويعجب الواحد منا كيف أن الدول العربية ومسؤوليها لهم كل هذه العلاقات والزيارات والإشادات بسنغافورة وبانيها ونخبتها، ولا نجد دولة منها تقدم على بعض ما أقدمت عليه الصين! ونجحت القيادة الصينية في جانب آخر قلما نلتفت إليه، وهو استفادتها بشكل مجد ومدروس من المستثمرين الصينيين الذين تركوا البلاد مع الثورة الى آسيا وأميركا وأوروبا خصوصا مع بدء تجارب "ماو" الاشتراكية. فلا الاقتصاد المصري ولا اللبناني أو الفلسطيني استفاد مثلا من الأموال المهاجرة أو المستثمرين الأجانب من أصول عربية بشكل ملحوظ.فعندما أنشأت السلطات الصينية أولى المناطق الاقتصادية الخاصة للاستثمارات الأجنبية وتنمية الصناعات في مقاطعة "فوجيان" عبر المضيق من تايوان، وكذلك في مقاطعة "غواندونغ" قرب هونغ كونغ، كانت الشركات خارج الصين بانتظار فرصة الحصول على أيد عاملة صينية رخيصة. وجدير بالذكر، تقول الباحثة، "أن كثيراً من هذه المصانع تملكها عائلات اضطرت إلى الهرب من الصين وقتما تولى ماو السلطة. وفي عام 1984 وسع "دنغ" من نطاق تجربته الناجحة، وأقامت الصين مزيداً من المناطق الاقتصادية الخاصة في أربع عشرة مدينة على طول ساحل الصين".ولم يكن تدريب العمالة الصينية وتعويدها على تقاليد الإنتاج الرأسمالي وشروط الاقتصاد الحر الحديث سهلاً، وإن كانت رواتبهم بسيطة، أقل من دولار ونصف في اليوم الواحد في مجال صناعة الأحزمة والحقائب الجلدية، وكان العمال يجهلون شكل الحزام بعد أن تكتمل صناعته، ولم يكونوا قد رأوا في السابق شكل الحقائب، بل لم يكن لدى العاملين أي فكرة تفيد بأن عليهم مواصلة العمل إذا غادر رئيس العمل القاعة!وفي المصنع تلو الآخر، تقول الباحثة، "ذهل الملاك الأجانب من طول الوقت المستهلك لتدريب العمال الصينيين، واللازم لكي يتخلوا عن العادات القديمة التي رسخت في نفوسهم خلال العمل لحساب الدولة الشيوعية". وتضيف حول تطور هذه التجارب الصينية في زراعة قيم الاقتصاد الحر التي جرت بالطبع في ظروف غير مريحة أو لمصلحة العمال دائماً. وتقول الباحثة: "كانت الأجور شديدة الانخفاض بالقياس إلى معايير الخارج، وكانت الأعداد الكبيرة من المصانع المنشأة في المناطق الاقتصادية الخاصة هي أولا مصانع لحساب الصينيين في المنفى في هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة، ثم بعد ذلك مصانع لرجال أعمال أميركيين وأوربيين ويابانيين وكوريين، وبدأت في هذه الأثناء المقاطعات الأخرى تجربة جديدة تتمثل بإعطاء الشركات المملوكة للدولة استقلالا ذاتيا في اختيار المنتجات التي تريد صناعتها". تحمل الشعب الصيني الكثير، وصبر على ما قد لا يصبر عليه غيره، وقامت السلطات بالاستدارة 180 درجة في بعض توجهاتها وسياساتها! "وشجع دنغ المواطن على الإقدام في جرأة وتجربة "سياهاي" أي القفر في بحار مشروعات الأعمال، وهكذا فإن الصين الأم التي ظلت زمنا تحذر من تبني الرأسمالية، وطالما صورتها على أنها شيطان بدأت تستقبل موجات متتالية من الشركات، وبدأ العاملون في المشروعات المملوكة للدولة المكتظة بأعداد العاملين فيها يعملون أعمالا إضافية ليلا، علاوة على عملهم الأصلي، في الشركات الخاصة أو محاولة فتح مشروعات صغيرة لحسابهم الخاص".كانت تجربة "تحرير" اقتصاد الصين كباقي تحولات وخطوات الصين في زمن الثورة، ولكن في اتجاه معاكس، نقلت مئات الملايين من البشر إلى واقع جديد. بدأت خطوات بناء الاقتصاد الصناعي الجديد بجد وحذر، فتقول الباحثة: "ما إن انتعشت تجربة دنغ للمناطق الاقتصادية الخاصة وحققت نجاحاً حتى شرعت الصين في إغراء المزيد من الشركات الأجنبية لإقامة المصانع حتى يتسنى تشغيل الآلاف من العمال الصينيين. وحولت الحكومة أراضي زراعية إلى ساحات صناعية مصممة لإقامة المصانع، وقدمت إعفاءات ضريبية وغير ذلك من حوافز، ومدت خطوط الهواتف علاوة على البيئة الأساسية لتكنولوجيا المعلومات. ووعدت الحكومة المركزية الموظفين المحليين بترقيات عند شغلهم الوظائف الجديدة، ولذلك عمدت كوادر الحزب، وبدافع الإحساس بالواجب، إلى نقل سكان القرى التاريخية من قراهم إذا ما أرادت شركة ما إزالة المباني لإقامة مصنع مكانها.وهكذا أصبح الموظفون الحكوميون تدريجيا هم "الباعة الجائلون المروجون للرأسمالية" الذين كانت تضطهدهم الحكومة حتى إن وصفوا النهج الجديد للصين بأنه "اشتراكية ذات خصائص صينية". (ص36-37)حاولت القيادة الصينية تجنب الاضطرابات والصراعات التي شهدتها روسيا، وكان القادة الصينيون "الإصلاحيون" يريدون تغيير الاقتصاد دون الاقتراب من الهيكل الأساسي للدولة. تقول الباحثة "بينما كان قادة الصين يتطلعون إلى نموذج سنغافورة في الخارج لاستلهامه كانوا في الوقت نفسه يشعرون بالفزع خوفا من المصير الذي آل إليه حليفهم السابق الاتحاد السوفياتي، وبعد أن بدأت الصين إصلاحاتها الاقتصادية في هدوء وصمت على مدى سبع سنوات، انطلق غورباتشيف في إصلاحاته وسط جلبة دعائية، والتزم نهجا مختلفا تماماً لأنه دعا إلى إحداث تغيير اقتصادي ثوري لا تطوير مرحلي، كما دعا إلى حرية الرأي والتعبير، وهي خطوة رائدة حاول الصينيون دائماً تجنبها في حرص وحذر".
مقالات
الصين بين «ماو» و«بينغ» (2-3)
24-05-2018