استراتيجيتنا التي نجحت
منذ بضعة أعوام، وبناء على تحليل دقيق لظروف النضال الوطني الفلسطيني، وفشل اتفاق أوسلو ونهج المراهنة على المفاوضات مع حكومة إسرائيل، وكذلك الفشل الماحق للمراهنة على الدور الأميركي كوسيط أو راع للسلام، تبلورت رؤية استراتيجية فلسطينية جديدة مضمونها أنه لا يمكن ردع حكام إسرائيل، وتحقيق أهداف النضال الوطني، إلا بتغيير ميزان القوى بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية بكل مكوناتها. وركزت تلك الاستراتيجية على ثلاثة مبادئ أساسية: الاعتماد على النفس، وتنظيم النفس، وتحدي الاحتلال ونظام التمييز العنصري الإسرائيلي، والتمرد على إجراءاته. كما حددت أن الهدف المركزي هو تغيير ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني، وجعل الاحتلال والنظام العنصري خاسراً. وبلورت تلك الاستراتيجية العناصر التي يجب استخدامها للوصول إلى ذلك الهدف في خمسة أعمدة رئيسة للنضال: أولها المقاومة الشعبية بكل أشكالها، وثانيها حركة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS)، وثالثها دعم الصمود الوطني وبقاء الفلسطينيين في وطنهم، ورابعها الوحدة الوطنية وإنشاء قيادة وطنية موحدة، أما العمود الخامس فكان تفعيل ودمج طاقات كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل، والأراضي المحتلة، والخارج وتحقيق التكامل النضالي فيما بينها. وخلال السنوات الثلاث الماضية رأينا نجاحات باهرة في تطبيق الأعمدة الثلاثة الأولى، فقد شهدت فلسطين منذ عام 2015 تصاعدا متواصلا في أنشطة المقاومة الشعبية، وصلت ذروة مجيدة في هبّة القدس عام 2017، ثم وصلت ذروة أقصى في مسيرة العودة وتظاهرات الذكرى السبعين للنكبة الرافضة لقرارات إدارة ترامب، والمطالبة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
وترافق ذلك مع تبني مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية والمؤسسات المدنية أسلوب المقاومة الشعبية الذي ترسخ كشكل للنضال الرئيسي متجاوزا الاعتراضات العديدة عليه، بل يمكن القول إن اندماجا قد حدث بين مفاهيم المقاومة الشعبية، والصمود المقاوم، والمقاطعة بما يجعل كل فلسطيني رجلا كان أو امرأة، شيخا أو شابا، قادرا على المشاركة في المقاومة المنشودة، كل حسب موقعه وطبيعة عمله. وبالتوازي مع هذا النجاح تصاعدت حركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل لتمثل الأسلوب الأمثل لحشد التضامن الدولي مع فلسطين، وتحويل هذا التضامن إلى قوة مادية فاعلة تلحق الخسائر بالاحتلال، وفتحت حركة المقاطعة الباب على مصراعيه لملايين الفلسطينيين المهجرين في الخارج ليشاركوا في نضال شعبهم بعد نفور وانكفاء طال كثيرا بسبب اتفاق أوسلو. وبدوره غذى النهوض العظيم للمقاومة الشعبية، وخاصة مسيرة العودة، حركة المقاطعة؛ فشهدنا تصديا باسلا للشباب الأميركيين لنيكي هيلي في جامعة هيوستن بهتافات الحرية لفلسطين، ورفضت الممثلة الأميركية البارزة نتالي بورتمان، رغم أنها إسرائيلية الأصل، الحضور لإسرائيل لاستلام جائزة منها بسبب سلوك الجيش الإسرائيلي، وأعلن العديد من الفنانين العالميين مثل مدير المسرح الوطني البرتغالي رودريغز، ووزير الثقافة البرازيلي السابق والموسيقار غليبر توغل، وفرقة بورتس، مقاطعة إسرائيل ورفض تقديم عروضهم فيها، ردا على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. ووقع عشرات الآلاف من مواطني آيسلندا عريضة تطالب بمقاطعة حفل اليورو فجين الذي سيقام العام القادم في إسرائيل، وكذلك فعلت بلدية دبلن، وانضم الفنانون البريطانيون براين أننو وريتشارد دارسون والمغنية غيونو لحملة المقاطعة.وتوالت القرارات من عشرات المجالس البلدية الأوروبية من أيرلندا لإيطاليا مرورا بإسبانيا بالانضمام لمقاطعة إسرائيل، ويستعد مجلس الشيوخ الأيرلندي لمناقشة قانون لفرض مقاطعة شاملة على منتجات المستوطنات، وانضم المخرج الفرنسي غودار للمقاطعة، وهكذا فعلت مغنية الراب الأميركية أزاليابانكس التي قالت إنها تعرضت لمعاملة عنصرية أثناء زيارتها الأخيرة لإسرائيل، ولا يمر أسبوع دون أن يشهد قرارا لجامعة، أو كنيسة أميركية، أو شركة عالمية بسحب استثماراتها من شركات وبنوك إسرائيلية.ولم تتردد جنوب إفريقيا في سحب سفيرها من إسرائيل احتجاجا على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وجاء الرفض الفلسطيني لخطط ترامب وقراراته ليضع سداً هائلا في وجه محاولات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية. لقد صار واضحا أن استراتيجيتنا أثبتت صحتها، بل إن تطبيقها يحقق نجاحات متتالية ومتصاعدة، ولكن ما ينقصها هو العمود الرابع، أي الوحدة الوطنية، والتي لا يمكن تحقيقها إلا بإنهاء الانقسام المأساوي وتطبيق اتفاقات المصالحة الوطنية بما في ذلك انضواء الجميع في قيادة وطنية موحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والمباشرة ببناء مجلس وطني جديد على قاعدة إشراك الشعب الفلسطيني بالانتخابات الديمقراطية الحرة. وفي ظل التحديات الخطيرة التي تواجه الشعب الفلسطيني، بما في ذلك محاولات تصفية قضيته الوطنية، ومع انفتاح آفاق هائلة لتغيير ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني بالجمع الناجح بين المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة والوحدة، فإن التعايش مع الانقسام، أو القبول باستمراره، يمثل جريمة في حق شعبنا ومستقبل أبنائه وبناته. أمامنا فرصة وطنية وعالمية هائلة لوضع حكام إسرائيل واحتلالهم ومنظومتهم العنصرية في الزاوية، ولدينا شعب معطاء لا حدود لبطولته وصموده، وبيدنا استراتيجية كفاحية أثبتت الحياة صحتها، فهل يتكاتف الجميع على تحقيق أهدافها؟* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية