في الآونة الأخيرة أصبحت الديمقراطية الرائدة في العالم، الولايات المتحدة، تبدو على نحو متزايد أشبه بأكبر وأقدم دكتاتورية قائمة في العالم اليوم، الصين. فمن خلال ملاحقة سياسات أحادية الجانب تستهزئ بالإجماع العالمي العريض، يبرر الرئيس دونالد ترامب فعليا تحدي نظيره الصيني شي جين بينغ الذي دام طويلا للقانون الدولي، على النحو الذي يؤدي إلى تفاقم المخاطر الجسيمة التي تهدد النظام العالمي القائم على القواعد.

تلاحق الصين بشكل عدواني مطالباتها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي- بما في ذلك عن طريق عسكرة المناطق المتنازع عليها ودفع حدودها بعيدا في المياه الدولية- على الرغم من قرار التحكيم الدولي الذي قضى بإبطال هذه المطالبات، علاوة على ذلك استخدمت الصين تدفقات الأنهار العابرة للحدود كسلاح والتجارة كأداة للإكراه الجغرافي الاقتصادي ضد الدول التي ترفض إطاعة الأوامر.

Ad

كثيراً ما دانت الولايات المتحدة هذه التصرفات، ولكن في عهد ترامب فقدت هذه الإدانات مصداقيتها، وليس لأنها مختلطة فقط بالثناء على شي جين بينغ، الذي وصفه ترامب بأنه "رائع" و"رجل عظيم"، بل لأن سلوك ترامب زاد من إدراك الناس للنفاق الأميركي، وشجع الصين على النزعة التحريفية الإقليمية والبحرية في منطقة المحيط الهادئ.

من المؤكد أن الولايات المتحدة لاحقت منذ أمد بعيد سياسة خارجية أحادية، والتي تجسدت في غزو جورج دبليو بوش للعراق في عام 2003 وإطاحة باراك أوباما بنظام معمر القذافي في ليبيا في عام 2011، ورغم أن ترامب لم يتمكن (بعد) من إسقاط أي نظام، فقد دفع بنهج الأحادية العدوانية عِدة خطوات إلى الأمام، وشن هجوما متعدد الجوانب على النظام الدولي.

فور دخوله البيت الأبيض تقريبا، سحب ترامب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية التجارة والاستثمار الطموحة التي ضمت 12 دولة والتي أبرمت بوساطة من أوباما، وبعد فترة وجيزة، رفض ترامب اتفاق باريس للمناخ، فقوض بالتالي هدف الإبقاء على الزيادة في درجات الحرارة العالمية عند مستوى "لا يتجاوز" درجتين مئويتين أعلى من مستويات ما قبل الصناعة، مما يجعل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لا تشارك في هذا المسعى. ومؤخرا نقل ترامب سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، على الرغم من الإجماع الدولي العريض على ضرورة تحديد وضع المدينة المتنازع عليها في إطار المفاوضات الأوسع حول التوصل إلى تسوية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومع افتتاح السفارة لجأ السكان الفلسطينيون في غزة إلى تصعيد احتجاجاتهم مطالبين بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ما يعرف الآن بإسرائيل، الأمر الذي دفع الجنود الإسرائيليين إلى قتل 62 متظاهرا على الأقل وإصابة أكثر من 1500 آخرين عند السياج الحدودي مع غزة. ويتحمل ترامب حصة غير صغيرة من اللوم عن هذه الخسائر البشرية، ناهيك عن تدمير الدور الذي أدته أميركا تقليديا كوسيط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وينطبق الأمر نفسه على أي صراع أو عدم استقرار ناشئ عن انسحاب ترامب من اتفاق إيران النووي لعام 2015 على الرغم من امتثال إيران الكامل لشروطه. كما يمتد هجوم ترامب على النظام القائم على القواعد- وبشكل مشؤوم- إلى التجارة، ففي حين أمهل الصين بتعليق تعريفاته الشاملة الموعودة على واردات الولايات المتحدة من الصين، حاول ترامب إكراه وإذلال حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، برغم أن الفائض التجاري المجمع لهذه الدول مع الولايات المتحدة- 95.6 مليار دولار في عام 2017- يعادل نحو ربع فائض الصين التجاري مع الولايات المتحدة. فقد أرغم ترامب كوريا الجنوبية على قبول اتفاقية تجارية جديدة، وسعى إلى الضغط على صناعة تكنولوجيا المعلومات المهمة في الهند- والتي تولد ناتجا تعادل قيمته 150 مليار دولار سنويا- من خلال فرض سياسة تقييدية للتأشيرات، أما عن اليابان فقد أرغم ترامب في الشهر الماضي رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي على قبول إطار تجاري جديد تنظر إليه الولايات المتحدة باعتباره تمهيدا للمفاوضات حول اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة.

وتفضل اليابان انضمام الولايات المتحدة مرة أخرى إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تقودها اليابان، والتي تضمن قدرا أكبر من تحرير التجارة وتكافؤ الفرص في الإجمال مقارنة بالاتفاق الثنائي، والذي قد تحاول الولايات المتحدة إمالة كفته لمصلحتها، لكن ترامب- الذي رفض أيضا استثناء اليابان والاتحاد الأوروبي وكندا بشكل دائم من التعريفة التي فرصتها إدارته على الصلب والألمنيوم- لا يبالي بتفضيلات حلفائه. على سبيل المثال، عانى آبي "مفاجآت وصفعات متكررة" من ترامب، وهو ليس بمفرده، فعلى حد تعبير رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك مؤخرا "مع أصدقاء مثل ترامب، من يحتاج إلى أعداء".

الواقع أن تكتيكات ترامب التجارية، التي تستهدف وقف انحدار أميركا الاقتصادي النسبي، تعكس النزعة التجارية العضلية نفسها التي استخدمتها الصين لكي تصبح ثرية وقوية، ولا تكتفي كلا الدولتين الآن بتقويض النظام التجاري القائم على القواعد بكل نشاط فحسب، بل يبدو الأمر وكأن كلا منهما تحاول إثبات قدرتها على انتهاك القواعد والمعايير المشتركة والإفلات من أي عقاب، ما دامت تتمتع بالقدر الكافي من القوة كدولة، ويبدو أن القوة لا تحترم غير القوة في عالم اليوم. وبوسعنا أن نرى هذه الديناميكية في الطريقة التي يرد بها ترامب وشي جين بينغ على أحادية كل منهما، فعندما نشرت الولايات المتحدة نظامها الدفاعي الطرفي للأجواء المرتفعة في كوريا الجنوبية، استخدمت الصين نفوذها الاقتصادي للانتقام من كوريا الجنوبية، ولكن ليس من أميركا.

على نحو مماثل، بعد توقيع ترامب على قانون السفر إلى تايوان، الذي شجع الزيارات الرسمية بين الولايات المتحدة والجزيرة، نظمت الصين مناورات حربية ضد تايوان وقدمت رشوة لجمهورية الدومينيكان لحملها على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الحكومة التايوانية، لكن الولايات المتحدة لم تواجه أي عاقبة من الصين.

ومن جانبه، في حين مارس ترامب الضغوط على الصين لدفعها إلى تغيير سياساتها التجارية، فإنه أعطى شي جين بينغ ترخيصا للتصرف على هواه في بحر الصين الجنوبي، متخذا خطوات رمزية فقط- مثل حرية عمليات الملاحة- ضد التوسع الصيني، كما التزم الصمت في مارس، عندما أجبرت التهديدات العسكرية الصينية فيتنام على وقف عمليات التنقيب عن النفط داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة، واختار التزام الحياد في الصيف الماضي عندما أدى بناء الصين لطريق على هضبة دوكلام المتنازع عليها إلى إشعال شرارة مواجهة عسكرية مع الهند.

ترتكز استراتيجية ترامب "أميركا أولا"، و"الحلم الصيني" الذي يراود شي جين بينغ على افتراض مشترك مفاده أن أكبر قوتين في العالم تتمتعان بحرية التصرف الكاملة بما يحقق مصالحهما، وبالتالي فإن النظام العالمي الناشئ عن ذلك التوجه ليس نظاما على الإطلاق، بل هو فخ تضطر فيه الدول إلى الاختيار بين أميركا الصفقات التي لا يمكن التنبؤ بسلوكياتها بقيادة ترامب، والصين الطموحة الانتهازية.

* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب، منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»