زين المواصف تدفن اليهودي المُحتال حياً (12 - 30)

نشر في 28-05-2018
آخر تحديث 28-05-2018 | 00:04
نستكمل اليوم مع حكاية شهرزاد قصة التاجر مسرور ومحبوبته الجارية «زين المواصف»، بعدما رحل بها التاجر اليهودي، إلى مدينة بعيدة، وظل يعمل على إيذائها وتقييدها مع جاريتيها هبوب وسكوب، إلى أن لجأت ذات الجمال المبهر إلى قاضي القضاة، الذي أمر بإعدام اليهودي وتقطيعه، مرضاة لجمال الجارية المعذبة، التي عشقها القضاة الأربعة.
توقفنا في حلقة أمس عندما ساءت أحوال القضاة الأربعة غراماً في «زين المواصف»، وحار الحكماء في مرضهم ولم يعرفوا لهم علاجاً، وبعد ذلك دخل الناس على القاضي الأول، فسلموا عليه واستخبروه عن حاله، فتنهَّد وباح بما في ضميره. ثم ترحموا عليه، وانصرفوا إلى القاضي الثاني ومعهم الطبيب، فلم يجدوا به ما يحتاج إلى علاج، ولما سألوه عن حاله، أخبرهم بما كان من أمره مع زين المواصف، وأخذ يشكو غرامه، ووجده بها وهيامه، ثم شهق شهقة ففارقت روحه جسده، فجهزوه ودفنوه وترحموا عليه.
لما كانت الليلة الرابعة والخمسون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن أهل المدينة ذهبوا بعد ذلك إلى القاضي الثالث، ثم إلى القاضي الرابع، فوجدوهما مريضين بالحب، ثم لحقا بزميليهما، فدفنوهما معهما. كذلك كان شأن جميع ولاة الأحكام والشهود وغيرهم ممن وقعوا في غرام زين المواصف!

أما «زين المواصف» وجاريتاها، فما زلن يُسرعن في السير ليل نهار، حتى قطعن مسافة طويلة في البراري والقفار، ثم مررن على دير في الطريق، فيه راهب كبير اسمه دانس، ومعه أربعة رهبان من تلامذته، فلما شاهد زين المواصف، نزل إليها ودعاها وجاريتيها إلى النزول في ضيافته للراحة من عناء السفر، فقبلن دعوته، وهن يجهلن رغبته.

وكان منذ رآها قد فتنه هواها، فأخذ في كل يوم يرسل إليها واحداً من تلامذته، ويزوده بخطاب منه يشرح لها فيه ما يعانيه من حبها، ولكن كل راهب أرسله إليها كان يقع في حبها، ويحاول اجتذاب قلبها، ويكثر من ملاطفتها ويراودها عن نفسها، بينما هي تصدّهم وتنهرهم فلا يزيدهم ذلك إلا تعلقاً بها.

اقرأ أيضا

ولما فرغ صبر دانس واشتد غرامه، قال لنفسه: إن صاحب المثل يقول، ما حك جلدك غير ظفرك. ثم نهض وصنع طعاماً فاخراً، وحمله إليها، ووضعه بين يديها، وكان ذلك في اليوم الثالث من وصولها إلى الدير، ثم قال لها: تفضلي بالأكل من هذا الطعام الذي صنعته بيدي، فأكلت هي وجاريتاها حتى اكتفين، وشكرنه على كرمه، ثم قال لها: يا سيدتي أريد أن أنشدك أبياتاً من الشعر. فقالت له: حباً وكرامة، فأنشد هذه الأبيات:

ملكت قلبي بألحاظ ووجنات

وفي هواك جرت بالليل أناتي

لا تتركيني صباً مُغرماً دنفاً

أعالج العشقَ حتى في المنامات

لا تتركيني صريعاً والهاً فلقد

تركت أشغال ديري بعد لذاتي

يا غادة حللت في الحب سفك دمي

رفقاً بحالي فقد طالت شكاياتي

فلما سمعت زين المواصف شعره، أجابته بهذين البيتين:

يا طالب الوصل لا يغررك بي أمل

اكفف سؤالك عني أيها الرجــل

لا تطمع النفس فيما لست تملكــه

إن المطامع مقرون بها الأجــل

لما سمع شعرها، رجع إلى صومعته حائراً لا يدري كيف يصنع، ولم يزل في أسوأ حال إلى أن جنّ الليل، فقامت زين المواصف وقالت لجاريتيها: إننا لن نقدر على مقاومة هؤلاء الرهبان، فهيا بنا نهرب من هنا. فوافقن على ذلك، وخرجن من باب الدير ليلاً، ولم يزلن سائرات حتى لحقن بقافلة فاختلطن بها، وعرفن أنها قادمة من المدينة التي جئن منها، كما علمن بموت القضاة والشهود، فتعجبت زين المواصف من ذلك غاية العجب، فقالت لها جاريتها هبوب: إذا كان الرهبان الذين اعتزلوا الناس للعبادة ولا ميل لهم إلى النساء قد افتتنوا في هواك، فاعذري أولئك القضاة، لأن عقيدتهم أن لا رهبانية في الإسلام!

وفي صباح اليوم التالي، بحث الرهبان عن زين المواصف وجاريتيها، فلم يجدوا لهن أثراً، فاشتد عليهم المرض، ولما يئسوا من الوصول إليها، صنعوا لها صورة كبيرة علقوها عندهم في الدير.

أما زين المواصف فإنها لم تزل سائرة إلى أن وصلت إلى منزلها، وفتحت الأبواب ودخلت، ثم أرسلت إلى أختها نسيم، فلما سمعت أختها برجوعها، فرحت فرحاً شديداً، وأحضرت لها الفراش ونفيس القماش، وأرخت الستور على الأبواب، وأطلقت بخور الند والعنبر والمسك والعود. وبعدما لبست زين المواصف أفخر الثياب وتزينت أحسن الزينة، جلست تتحدث إلى أختها وجواريها اللاتي تخلفن عن السفر معها، وذكرت لهن جميع ما وقع لها من الأول إلى الآخر، ثم التفتت إلى هبوب وأعطتها دراهم وأمرتها أن تذهب وتأتي إليها بشيء تأكله هي وجواريها، فذهبت وأتت بالذي طلبته من الأكل والشرب، فلما انتهى أكلهن وشربهن، أمرت هبوب أن تمضي إلى مسرور وتنظر أين هو وتشاهد ما هو فيه من الأحوال!

كان مسرور زاد به الوجد والغرام، والعشق والهيام، فخرج قاصداً منزل محبوبته ليتسلى كعادته بإنشاد الأشعار، وتقبيل هذا الجدار وذاك الجدار، فلما اقترب من الزقاق الذي به منزل زين المواصف، شمَّ تلك الروائح الذكية، فطار لبّه وخفق قلبُه، وتضرّم غرامه، وزاد هيامُه، ثم وقعت عيناه على هبوب وهي متوجهة للبحث عنه، فلما رآها مقبلة من صدر الزقاق، أغمى عليه من شدة الفرح!

فخ «زين المواصف»

لما كانت الليلة الخامسة والخمسون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وقعت عيناها على مسرور، أسرعت إليه ولم تزل تنعشه حتى أفاق، ثم بشرَّته بقدوم سيدتها زين المواصف، وقالت له: إنها أرسلتني في طلبك. ففرح بذلك فرحاً شديداً ما عليه من مزيد، ثم أخذته ورجعت به إليها، فلما رأته زين المواصف نزلت من فوق سريرها، ولم يزالا في عناق وبث أشواق حتى غشي عليهما زمناً طويلاً من شدة المحبة والاشتياق.

لما أفاقا من غشيتهما أمرت جاريتها هبوب بإحضار قُلة مملوءة من شراب السكر، وقلة مملوءة من شراب الليمون، فأحضرت لها الجارية جميع ما طلبته، ثم أكلوا وشربوا، وما زالوا كذلك إلى أن أقبل الليل، فصاروا يذكرون الذي جرى لهم من أوله إلى آخره.

في صباح اليوم التالي، أمرت بإحضار القاضي والشهود فعقدوا قرانها على مسرور، وأقام الجميع بعد ذلك في سعادة وحبور.

وبعد نحو شهر علمت زين المواصف أن اليهودي في طريقه إلى المدينة، فدعت جاريتها هبوب وقالت لها: امضي إلى مقبرة اليهود واحفري قبراً وضعي عليه الرياحين، ومتى جاء اليهودي وسألك عني فقولي له: إن سيدتي ماتت حزناً على فراقك، ثم اذهبي به إلى القبر واحتالي لدفنه فيه حياً، فقالت: سمعا وطاعة.

وما كاد اليهودي يصل إلى المنزل حتى استقبلته هبوب وهي تبكي ودموعها تجري على خديها، فسألها: ما يبكيك وأين سيدتك؟ فأجابت: إن سيدتي ماتت بسبب حزنها عليك، فلما سمع منها ذلك حار في أمره، وبكى بكاء شديداً، ثم قال لها: أين قبرها؟ فأخذته ومضت به إلى المقبرة وأرته القبر الذي حفرته فوقف يبكي بكاء شديداً، ثم أنشد هذه الأبيات:

أواه من حرقة قد أوهنت جلدي

ومن فراق قضى بالحزن والكمد

يا ليتني ما عرفت الحب في زمني

ولم أبح بغرام هاج في كبدي

قد كنت في عيشة مرضية رغــد

وصرت من بعدها في الذل والنكد

زين المواصف لا كان الفراق ولا

كان الذي فارقت روحي بها جسدي

لقد ندمت على نقض العهود وقد

عاتبت نفسي على ما قدمته يــــدي

ولما فرغ من شعره، بكى وأنَّ واشتكى، ثم خرّ مغشياً عليه، فأسرعت هبوب وجرته ووضعته في القبر، ثم سوته عليه، ورجعت إلى سيدتها وأعلمتها بما كان، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وأنشدت هذين البيتين:

الدهر أقسم أن يكون مكدري

حنثت يمينك يا زمان فكفر

مات العذول، ومن هويت مواصلي

فانهض إلى داعي السرور وشمر

ولم يزالوا في أفراح ومسرات، إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات ومميت البنات.

أبو الحسن الدراج

لما كانت الليلة السادسة والخمسون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: والآن وقد سمعتَ يا مولاي حكاياتٍ كثيرة عن التجار، وما جرى لهم في الرحلات والأسفار، من الأهوال والأخطار، في المحيطات والبحار، والبراري والقفار، كما سمعت حكايات أخرى عن العشاق، وما جرى لهم من الفراق، وطول الحنين والاشتياق، فهل أقص عليك بعض حكايات عن الصالحين من العبَّاد والزهَّاد، وما كان من أمرهم في مختلف البلاد؟

فقال لها: حباً وكرامة.. فقالت: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن أبا الحسن الدراج، أحد رجال الطريقة، الذين وصلوا إلى الحقيقة، حدَّث مريديه يوماً ببعض ما شاهد من أحوال، خلال قيامه بالترحال والتجوال، فقال: زرتُ عدة مرات مكة المكرمة زادها الله شرفاً، وكان الناس يتبعونني لمعرفتي بالطريق والمناسك، فاتفق في عام من الأعوام أني أردتُ الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقلت لنفسي: أنا عارف بالطريق فأذهب وحدي، ومشيت حتى وصلت إلى القادسية، ودخلت مسجدها فرأيت في محرابه رجلاً مجذوباً، وقال لي: أسألك الصحبة إلى مكة المكرمة، فقلت لنفسي: إني فررت من الأصحاب فكيف أصحب المجذوبين؟ ثم قلت له: إني لا أصحب أحداً، فسكت ولم يكلمني بعد ذلك حتى أقبل الصباح فتركته في المسجد، وأستأنفت السير وحدي حتى وصلت إلى العقبة... وما دخلت مسجدها حتى عجبت إذ وجدت ذلك المجذوب قد سبقني إليه.

وقلت لنفسي: سبحان الله، كيف سبقني هذا إلى هنا؟ فرفع رأسه وتبسم وقال لي: يا أبا الحسن، إنه يصنع للضعيف ما يتعجب منه القوى، فبت تلك الليلة في حيرة مما رأيت، ولما أصبحت سلكتُ الطريق وحدي، فلما وصلت إلى عرفات وقصدت المسجد، إذا بالرجل نفسه في المحراب هناك، فأقبلت عليه وقلت له: يا سيدي أسألك الصحبة، وجعلت أقبل قدميه، فقال لي: ليس لي إلى ذلك سبيل، ولما رأني أبكي وأنتحب لحرماني من صحبته، قال لي: هوِّن عليك فإنه لا ينفعك البكاء، ثم أنشد هذه الأبيات:

أتبكي على بعدي ومنك جرى البعدُ

وتطلب ودا حين لا يمكن الود

نظرت إلى ضعفي وظاهر علتي

وقلت سقيمٌ لا يروح ولا يغدو

ألم تر أن الله جل جلالـــــــه

يمن بلطف ما تخيله العبد

لئن كنت في رأي العيون كما ترى

وبالجسم من فرط الزمانة ما يبدو

وليس معي زاد يوصلني إلى

محل به يأتي إلى سيدي الوفد

فلي خالق ألطافه بي خفية

وليس له ند ولا منه لي بد

فسر سالماً عني ودعني وغربتي

فإن الغريب الفرد يؤنسه الفرد

فانصرفت من عنده آسفاً، وكنت بعد ذلك لا آتي موضعاً إلا وجدته قد سبقني إليه، ولما وصلت إلى المدينة غاب عني أثره، ولم أقف على خبره، ثم لقيت أبا يزيد البسطامي وأبا بكر الشبلي وأصحابهما من الشيوخ الواصلين، فأخبرتهم بقصتي، وشكوت إليهم قضيتي، فقالوا: هيهات أن تنال بعد ذلك صحبته، هذا أبو جعفر المجذوب، بحرمته تستقي الأنواء، وببركته يستجاب الدعاء.

أبو جعفر المجذوب

لما سمعت منهم هذا الكلام، زاد شوقي إلى لقائه، وسألت الله أن يجمعني به. بينما أنا واقف بعرفات إذا بجاذب يجذبني من خلفي، وإذا به ذلك المجذوب، فلما رأيته صحت صيحة عظيمة ووقعت مغشياً عليَّ، فلما أفقت لم أجده، فزاد وجدي لذلك، وضاقت عليّ المسالك، وسألت الله تعالى رؤيته...

وبعد أيام فوجئت به يجذبني من خلفي، وقال لي: ماذا تريد مني؟ فسألته أن يدعو لي ثلاث دعوات: الأولى أن يحبب الله إليّ الفقر، والثانية أن لا أبيت على رزق معلوم، والثالثة أن يرزقني النظر إلى وجهه الكريم، فدعا لي هذه الدعوات وانصرف عني، وقد استجاب الله دعواته لي. أما الأولى فإن الله حبب إليّ الفقر فوالله ما في الدنيا شيء هو أحب إليّ منه، وأما الثانية فإني منذ سنين ما بتَّ على رزق معلوم ومع ذلك لا يحوجني الله إلى شيء، وإني لأرجو أن يمن الله عليّ بالثالثة إنه كريم مفضال، ورحم الله من قال:

زي الفقير تبتل ووقار

ولباسه الخلقان والأطمار

والاصفرار يزينه، وطعامه

وشرابه الترتيل والأذكار

قد شفه طول القيام بليله

والدمع من أجفانه مدرار

فأنيسه في داره أذكاره

وجليسه في ليله الستار

إن الفقير به يغاث الملتجي

وكذلك الأنعام والأطيار

ولأجله يجري الإله بلاءه

وبفضله تتنزل الأمطار

وإذا دعا يوماً بكشف ملمة

هلك الظلوم وعطل الجبار

فالخلق أجمعهم مريض مدنف

وهو الطبيب المسعف المغوار

سيماه تعرفه بها في وجهه

أثر السجود تحيطه الأنوار

يا راغبا عنهم ولم نر فضلهم

حجبتك ويحك عنهم الأوزار

ترجو لحاقهم وأنت مقيد

قد أخرتك عن المنى الأفكار

لو كنت تعرف قدرهم لصحبتهم

وحلت لك الرحلات والأسفار

لا يعرف المزكوم عطر أزاهر

ولذي العمى لا تظهر الأقمار

فارجع إلى مولاك وأسأل فضله

فعسى تساعد سعيك الأقدار

وتراح من فرط التباعد والقلى

وتنال ما تهوى وما تختار

فجنابه رحب لكل مؤمل

وهو الإله الواحد القهار

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

الجارية تتزوج حبيبها مسروراً بعدما تخلصت من اليهودي المحتال

شهرزاد تنتقل إلى قصص العباد بعدما اكتفت من قصص التجار
back to top