كانت البداية قبل خمس سنوات، عندما استيقظ عبد الباسط ذات صباح على صرخات والدته وشقيقته نادية، التي تصغره بعامين فقط ليكتشف أن والده العامل البسيط فارق الدنيا.

يومها، اسودت الدنيا في عيني عبد الباسط بعدما فقد السند والأمان، وأصبح مطالباً بتحمل مسؤولية والدته وشقيقته الصغرى وتعويضهما عن الأب الراحل الذي مات ولم يترك لأسرته جنيها واحداً!

Ad

مضطراً ترك عبد الباسط دراسته الثانوية ونزل إلى سوق العمل بشهادة الإعدادية في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية (تبعد عن القاهرة 83 كيلومتراً) بحثاً عن لقمة العيش. وبعدما «داخ السبع دوخات»، تمكّن من الحصول على وظيفة «فراش» في مكتب للاستيراد والتصدير براتب ضئيل جداً لا يكاد يكفي لإطعام أفراد أسرته أياماً معدودة.

ولكن عبد الباسط رضي بما قسمه الله له وظل يعمل بأقصى طاقته وجهده كي لا يموت وتموت معه أمه وشقيقته الصغرى من الجوع.

مصيبة

لم تمض سوى أشهر قليلة، حتى داهمت الأسرة البائسة مصيبة جديدة، من العيار الثقيل. صرخت الأم فجأة بعدما داهمتها آلام مبرحة، وأسرع الابن عبد الباسط بها إلى أقرب مستشفى وهناك خرج عليه الأطباء يعلنون إصابة الأم بالمرض اللعين السرطان.

اهتزت الأرض تحت قدمي الشاب المسكين. كاد يسقط مغشياً عليه من هول الصدمة. هرول إلى أمه يحتضنها بشدة ويبكي بحرقة على صدرها مؤكداً لها في الوقت نفسه أنه لن يتخلى عنها أبداً، ولن يتركها تموت أمامه من دون أن يحرك ساكناً.

وكما يقولون، نحت عبد الباسط في الصخر كي يجد وظيفة إضافية يستطيع من خلالها تدبير ثمن علاج والدته الباهظ التكلفة ولكن لم يجد الشاب المسكين سوى وظيفة ليلية في أحد المخابز بمدينة بلبيس براتب ضئيل أيضاً. كعادته رضي الشاب بالوظيفة وبالأمر الواقع الجديد الذي كتبه عليه الزمان!

أيام سوداء

لا أحد يعلم أو يتصوّر كيف مضت تلك الأيام السوداء بأفراد أسرة الشاب المنكوب، ولا كيف كان وأمه المريضة وشقيقته الصغرى نادية يأكلون ويشربون ويتداوون بتلك الجنيهات القليلة التي كان يحصل عليها رب الأسرة البائسة أول كل شهر.

هكذا كانت حياة الشاب البائس عبد الباسط قبل أن يتعرض لمصيبة جديدة ضمن سلسلة المصائب التي داهمت حياته، وكم كانت المصيبة الجديدة قاسية عليه!

كان عبد الباسط يخرج كل يوم في الصباح الباكر بعد أن يودع أمه المريضة ويوصي عليها شقيقته الصغرى، ثم يتوجه إلى عمله الصباحي في شركة الاستيراد والتصدير، وبعد أن ينتهي منه يتوجه إلى وظيفته المسائية في المخبز. ولكن لم يخطر في بال الشاب المجتهد المشغول بلقمة عيشه أن تهرب شقيقته الصغرى من هذه الحياة!

لم تستطع نادية تحمل حياة الفقر، عجزت عن احتمال رعاية والدتها المريضة. خرجت ذات يوم واختفت وكأنها «فص ملح وذاب في كوب ماء». يومها عاد عبد الباسط ليكتشف هروب شقيقته الصغرى. بحث عنها في كل مكان ولكن من دون جدوى. عاد إلى أمه يجر أذيال الخيبة. بكت الأم المريضة بحرقة ولكنها أمسكت بيد ابنها الوحيد بوهن وراحت تواسيه وتشجعه على مواصلة رحلة كفاحه في الحياة.

رجل مهزوم

كان عبد الباسط يبدو كرجل مهزوم. هزمته الدنيا هزيمة قاسية، مرات عدة ولم ترحمه. خطفت والده في لحظة غدر وأسقطت أمه فريسة مرض لا يرحم وقست على شقيقته الصغرى نادية التي لم تحتمل هذه الحياة فهربت إلى المجهول، عسى أن يكون أرحم عليها مما تعيشه، ثم كانت مصيبة جديدة في انتظار عبد الباسط. مصيبة لم يحسب لها حسابا!

ذات مساء، بينما كان في المخبز يعمل، توقفت سيارتان إزاء الباب وهبطت منهما مجموعة من الرجال واقتحموا المخبز بسرعة وأمر أحدهم الباقين بالتفتيش.

وقف عبد الباسط مذهولاً بما يجري حوله. أسرع إلى الرجل الذي أصدر أمر التفتيش للباقين وسأله عن هويته. ولكن الرجل المهم لم يعر العامل البسيط اهتماماً وراح يشير إلى رجاله بسرعة الانتهاء من الأمر.

التفت عبد الباسط حوله ليجد الرجال الغرباء يفتشون في كل مكان، فخشي أن يتعرّض المخبز للسرقة فاندفع إلى الرجل المهم مجدداً وأمسك بتلابيبه بعدما رفض أن يرد على سؤاله، وهنا غلت الدماء في عروق الرجل الذي صرخ في الشاب المسكين قائلاً في حدة مهدداً:

* أنت بتمسك في خناقي. أنا مفتش تموين والله لأوديك في 60 داهية!

ونفذ مفتش التموين تهديده، خصوصاً بعدما اكتشف رجاله وجود عجز في ميزانية المخبز يصل إلى ألفي جنيه، كذلك اختفاء كميات كبيرة من الدقيق المدعوم!

العامل المسكين

وُضعت تلك التهم كافة في عنق العامل المسكين عبد الباسط الذي تحول في لحظة إلى متهم باختلاس المال العام لأنه تجرأ وسأل مفتش التموين «من يكون؟».

مفتش التموين أسرع باستدعاء رجال الشرطة، الذين وصلوا إلى المكان في لحظات وألقوا القبض على عبد الباسط. وراح يصرخ بأعلى صوته معلناً براءته وعدم مسؤوليته عن العجز في المخبز، ومؤكداً أنه مجرد عامل بسيط كل مهمته ان يقف على سير الأمور.

ولكن صرخاته كلها ذهبت أدراج الرياح.

إصرار على البراءة

في المحضر الذي حرره رجال الشرطة وفي أقواله إزاء وكيل النائب العام، أصرّ عبد الباسط على براءته من التهم الموجهة اليه، ورفض الاعتراف بجريمة لم يرتكبها.

ولكن الغريب أن القضية برمتها كانت تسير في اتجاه إدانته بعدما تبرّع كثير من زملائه في المخبز وأدلوا بشهادتهم والتي صبت كلها في اتجاه إدانة زميلهم المسكين عبد الباسط.

15 يوماً أمضاها عبد الباسط في الحجز للتحقيق معه. كان الشاب المسكين يكلم نفسه ويكاد عقله يذهب منه.

فهو لم يرتكب الجريمة المتهم بها ويشعر بوجود مؤامرة كبرى ضده هدفها الزج به في غياهب السجون من دون ذنب اقترفه. وكانت المرارة التي شعر بها العامل البسيط سببها سؤال واحد لم يستطع الاجابة عنه طيلة هذه الأيام... لماذا شهد زملاؤه ضده؟ ولمصلحة من؟!

محكمة الجنايات

أحيلت قضية عبد الباسط إلى محكمة جنايات الزقازيق التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار حسن أبو الوفا وعضوية المستشارين محمد أنور أبو سحلي ورأفت زكي. ونادى الحاجب على القضية ووقف عبد الباسط في قفص الاتهام يتوارى عن عيون الحاضرين وراح يدافع عن نفسه نافياً التهمة الموجهة إليه وسألته المحكمة عن المحامي الذي سيدافع عنه وأكد المتهم بابتسامة ساخرة بأنه لا يملك من المال شيئاً ليوكل إلى محام قضيته. فقررت هيئة المحكمة تأجيل الجلسة وانتداب محام للدفاع عن المتهم.

حتى موعد الجلسة التالية للمحاكمة كاد عبد الباسط يفقد عقله بعدما فشل في الإجابة عن السؤال:

«لماذا شهد زملاؤه ضده في القضية رغم علمهم ببراءته؟».

وفي ثاني جلسات محاكمة عبد الباسط حضر المحامي الذي انتدبته المحكمة وقدّم مستندات عدة قلبت القضية راساً على عقب، إذ ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المتهم عامل بسيط يقف على سير العمل، ولا علاقة له بالعجز الموجود في الميزانية وأن هذا الأمر مسؤولية مدير المخبز الذي يمت بصلة قرابة وثيقة برئيس إحدى المدن التابعة لمحافظة الشرقية.

بدأت هيئة المحكمة تستمع إلى تفاصيل أخرى من دفاع المتهم، وهنا تجرأ عدد من شهود الواقعة وأدلوا بشهادتهم الجديدة التي جاءت هذه المرة في صالح زميلهم عبد الباسط، بعدما استشعروا الأمان داخل قاعة المحكمة واعترف بعضهم بأن مدير المخبز هددهم ودفعهم إلى اتهام زميلهم باختلاس مبلغ ألفي جنيه، وإلا تعرضوا جميعاً للفصل من عملهم.

قضت هيئة المحكمة في نهاية الجلسة ببراءة عبد الباسط من الاتهامات الموجهة إليه وطلبت من النيابة إعادة القضية وتقديم المتهم الحقيقي، مدير المخبز للتحقيق.

سقط عبد الباسط في قفص الاتهام، وتملأ الدموع عينيه بعد زوال الغمة الكبرى التي كادت تحرمه من حريته ومن رعاية والدته المريضة وشقيقته الصغرى... ولكن!

هل انتهت حكاية عبد الباسط مع الكوارث والمصائب عند هذا الحد؟

الاجابة: لا... إنما بدأت!

رحلة العذاب

خرج عبد الباسط بعد نيل البراءة من المحكمة ليبدأ رحلة العذاب الحقيقية. رحلة علاج أمه من المرض اللعين، ولكن هذه المرة بعدما فقد عمله في المخبز. داخ الشاب المكافح بوالدته المريضة على المستشفيات الحكومية حيث العلاج غير كاف لأن ببساطة العلاج الحقيقي لهذا المرض اللعين يحتاج إلى آلاف الجنيهات.

كانت آلاف الجنيهات إزاء الشاب البائس عبد الباسط طوال فترة عمله في مكتب الاستيراد والتصدير، ولم يفكر ولو لمرة أن يمدّ يده ليستولي عليها. ولكن مع تدهور حالة والدته الصحية وآلامها المبرحة غير المحتملة وإشرافها على الموت، تسلل الشيطان إلى عقل الشاب لأول وآخر مرة!

لم ينم عبد الباسط في تلك الليلة. ظلّ جالساً ينظر إلى أمه النائمة تتأوه من شدة الألم ويفكر في طريقة عاجلة لإنقاذ حياتها بأية وسيلة.

فجأة استيقظت الأم وراحت بضعف تطمئن على أحوال ابنها الذي بادرها قائلاً إن صاحب مكتب الاستيراد والتصدير قرّر أن يتكفل بعلاجها وإنهما سيسافران إلى القاهرة غداً لعرضها على أشهر الأطباء هناك.

كذب عبد الباسط على أمه لأول مرة في حياته بعدما اتخذ قراراً لا رجعة فيه، وهو أن يأخذ حقه من الدنيا ولو لمرة واحدة!

في صباح اليوم التالي توجّه إلى مكتب مدير الشركة. كسر درج المكتب وأخذ مبلغ 10 آلاف جنيه وفرّ هارباً عائداً إلى بيته. بسرعة حمل والدته إلى مستشفى استثماري في القاهرة وسلم الإدارة المبلغ تحت حساب علاج والدته المشرفة على الموت.

الاعتراف

لم تمض ساعات قليلة إلا وكان رجال مباحث الجيزة يحيطون باللص البائس ويلقون القبض عليه ويقتادونه إلى مديرية الأمن حيث اعترف عبد الباسط بكل هدوء باستيلائه على مبلغ 10 آلاف جنيه من مكتب الاستيراد والتصدير حيث يعمل.

أحيل عبد الباسط إلى محكمة جنايات الزقازيق، والدائرة نفسها التي سبق ومنحته البراءة قبل أشهر قليلة في قضية سرقة المخبز قضت بحبسه سبع سنوات في القضية الجديدة، لتسدل الستار على حكاية الشاب البائس عبد الباسط الذي حاربته الدنيا بكل قوتها وهزمته شر هزيمة.