قضايا ومعوقات تجديد الخطاب الديني (15)
سد الذرائع معوق اعتمد الخطاب الديني فيما مضى وإلى يومنا مبدأ سد الذرائع في تحريم أمور جائزة فيها سعة للناس، ومنع مباحات واسعة، وحرم حقوقا مشروعة للمرأة، وقيد حريات ضرورية، وعطل مصالح مستحقة، وضيّق أموراً فيها سعة وتيسير على الناس، وتوسع الفقهاء في تطبيق المبدأ في كل المجالات التي لم تسعفهم النصوص الدينية، بحيث يصح القول بأنه لم يوجد مبدأ أو دليل شرعي أسيء استخدامه وأسرف في تطبيقه، كما حصل في تطبيق مبدأ سد الذرائع، حتى أن إحدى الباحثات قدمت رسالة دكتوراه في الأزهر الشريف، ذهبت فيها إلى القول: إنه لم تؤثر قاعدة فقهية في أحوال المسلمين وممارساتهم العملية والحضارية، سلباً وإيجاباً، مثلما أثرت القاعدة الفقهية الشهيرة "سد الذرائع". فما مبدأ سد الذرائع؟
يقصد بمبدأ سد الذرائع منع أو حظر أمر مباح خوف أو مظنة حصول مفسدة أو ضرر أو محرم، فما يؤدي إلى محرم يكون محرماً، ولو كان في أصله أمرا مباحا، لأن وسيلة الشيء تأخذ حكمه حلاً أو حرمة، وقد لجأ جمهور الفقهاء، قديماً وحديثا، إلى بناء أحكامهم الفقهية وفتاواهم الدينية على مبدأ سد الذرائع، فحرموا ومنعوا مباحات كثيرة: اجتماعية واقتصادية وسياسية ومعاملات، مظنة فساد موهوم، وخشية ضرر مزعوم، فسدوا أبواباً للخير والتيسير.ولا خلاف في مشروعية مبدأ سد الذرائع ولا حجيته، ولكن ذلك حيث الضرر المؤكد والمفسدة المتحققة، لكن الفقهاء حرموا مباحات لمجرد مظنة الفساد، ولله تعالى در إمام الظاهرية الفقيه ابن حزم الأندلسي (توفي384) حين انتقد هذا النهج في التفكير الذرائعي المتخوف من المآلات، الموسع لدائرة المحرمات، انتقاداً ساخراً، بقوله "وإذا حرم شيء حلال خوف تذرع إلى حرام، فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر"، وحكم بفساده بقوله: هو أفسد مذهب في الأرض، لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها. لقد أسيء تطبيق المبدأ في الميدان الاجتماعي، خصوصا كل ما يتعلق بوضعية المرأة وحركتها في المجتمع: تعليمها، عملها، زواجها، ملابسها، حجابها، سفرها، المناصب القيادية، قيادتها للسيارة، حقوقها السياسية، اختلاطها بالرجال، صلاتها في المسجد، ديتها... إلخ. تم توظيف مبدأ سد الذرائع بهدف حرمان المرأة من حقوق أقرتها الشريعة الإسلامية لها، وبشكل مفرط، لتكريس وضعية اجتماعية دونية للمرأة، فحرمت من التعليم على امتداد قرون متطاولة، بحجة أن التعليم يفسدها، ومنعت من حضور المساجد بحجة أن صلاتها في قعر بيتها أفضل، وهي حجة قال عنها الشيخ الغزالي: لو كانت صلاتها في بيتها أفضل لحرص نساء الصحابة على الصلاة في البيوت، بدلاً من احتشادهن في المسجد النبوي في العهدين النبوي والراشدي، ومنعت من الخروج، وضرب عليها النقاب خوف افتتان الرجال بها، أو يغويها الشيطان. وتم تهميش دورها المجتمعي بحجة عدم الرشد، ومنعت من حرية التصرف إلا بإذن الولي خوف وقوعها في الزلل، مع أن القرآن الكريم يقول: "فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ"، وحرمت من المناصب القيادية خوف تأثير العاطفة، ومنعت من قيادة السيارة خوف حصول مفاسد، وأقفل في وجه المرأة أي مجال فيه رجال خشية الفتنة، مع أن الإمام البخاري ذكر في صحيحه مجالات التقاء الرجال بالنساء في 66 باباً في كتابه الصحيح، شملت جميع مجالات الحياة العامة، في المساجد، ومجالس العلم، وعيادة المرضى، والعيدين. وهكذا استخدم مبدأ سد الذرائع لإقفال الباب في وجه المرأة لعمل نافع لها ولمجتمعها، وتم حرمانها من ممارسة أي إسهام مجتمعي، وبلغ الغلو في استخدام مبدأ سد الذرائع أن أحكاماً قرآنية تم تجاهلها، لأنها تتصل بمصالح المرأة، طبقاً للشيخ الغزالي رحمه المولى تعالى. ختاماً: لو أخذت البشرية بمبدأ سد الذرائع على علاته لما استطعنا الإفادة من منجزات التقدم العلمي: لمنعنا السيارات لأنها تسبب حوادث مميتة، وما ركبنا الطائرات خوف سقوطها، ولم نأخذ الأدوية خشية أضرارها الجانبية، وما أكلنا اللحوم لأنها تسبب الكولسترول، كل وسيلة في الحياة لها جانبها الإيجابي والسلبي، والعبرة دائماً في الغالب والمتحقق لا المظنون والنادر. * كاتب قطري