جلس الأب الذي تجاوز السبعين من عمره يتطلع إلى ولديه الشابين والدموع تترقرق في عينيه وبادرهما قائلاً:

أنا جمعتكما النهارده يا ولاد علشان أبلغكما بأمر خطير.

Ad

تناقل الولدان النظرات فيما بينهما وقالا في صوت واحد:

خير يا بابا. في إيه؟

أفتكر يا محمود وانت يا أحمد أني كنت بالنسبة لكما أباً حنوناً ومثالياً. عشت حياتي كلها من أجلكما بعد وفاة أمكما الله يرحمها. يعني أديت رسالتي على أكمل وجه تجاهكما.

وصمت الأب المسن لحظات ثم استطرد قائلاً:

أنا بقول لكما الكلام ده لأني قررت أسلمكما ميراثكما وأنا على قيد الحياة علشان كل واحد يواصل حياته بكرامة ومن غير ما يحتاج إلى إنسان حتى ولو كان الإنسان ده هو أباكم.

رد الولدان في نفس واحد:

ربنا يديك طول العمر يا بابا. وما يحرمناش منك أبداً.

ابتسم الأب وأضاف:

العمر مابقاش فيه أد اللي فات. والأعمار بيد الله. علشان كده أنا بعت قطعة الأرض اللي عشنا من خيرها طول السنين اللي فاتت علشان كل واحد ياخد نصيبه منها.

ارتسمت علامات الفرحة على وجهي الابنين من دون أن ينطقا بكلمة. وعاد الأب يقول لهما:

الأرض جابت لي مبلغاً كويساً حوالي نص مليون جنيه. وأنا بالفعل بعتها أمبارح وكل واحد منكم نصيبه في البيعة ربع مليون جنيه.

وانطلق الأب تاركاً ولديه إلى غرفة نومه وعاد بعد لحظات حاملاً حقيبتين في يديه وسلم كل ابن من أبنائه حقيبة. اسرع الشابان بتقبيل يد والدهما وراحا يؤكدان له أنهما لن ينسيا له هذا الجميل أبداً.

بعد المسافات

مضى على هذا الاجتماع المهم سبع سنوات كاملة. عاش خلالها الأب الأستاذ عبدالغفار في هدوء وراحة بال، ولم يعكر صفو حياته سوى قلة زيارات ولديه محمود وأحمد له في مركز ناصر النوبة. كان الأب دائماً ما يلتمس العذر لولديه بسبب بعد المسافات بين أسوان والقاهرة (حيث يعيش ابنه الأكبر محمود) أو الاسكندرية (حيث يعيش ابنه الاصغر أحمد). اكتفى الأب المسن بالمكالمات الهاتفية التي كانت تصله من ابنيه على فترات.

كما يُقال «الدنيا مشاغل!». انشغل الابنان عن والدهما المسن حتى بدأت اتصالاتهما الهاتفية به تقل بمرور الأيام. بعدما كانت أسبوعية أصبحت نصف شهرية ثم شهرية حتى اختفت تماماً وانقطعت أخبار محمود وأحمد عن والدهما.

الهجر يقتل

هجر المحاسب محمود والصيدلي أحمد وعدم سؤالهما عن والدهما المسن الذي يعيش بمفرده حوّل الأستاذ عبدالغفار إلى حطام إنسان. لم يتوقع الرجل يوماً أن يقابل ولداه الحب الذي منحه لهما بمثل هذا الجفاء والنكران. ولكن الأب المسن كان يملك عزة نفس غريبة وكبرياء معروفة عند أهالي أسوان كلهم. رفض أن يتنازل ويسأل عن ابنيه الجاحدين. قال في نفسه بعناد أهالي صعيد مصر «ليتصلا أولاً بي»!

ولم يتصل لا المحاسب محمود الابن الأكبر، ولا الصيدلي أحمد الابن الاصغر.

وطالت مدة الهجر وسقط الأب المسن ليصاب بالمرض بعدما هاجمه السرطان وتسلل إليه من ثغرة أحزانه. جلس وحيداً في فراشه والدموع تتساقط من عينيه. لم يكن بكاء الأستاذ عبدالغفار بسبب آلام مرضه الرهيبة التي أصيب بها قبل عامين. ولكن دموعه الحارقة كان سببها جمود وجحود ولديه اللذين تسلما نصيبهما في الميراث وانطلق كل منهما إلى حال سبيله من دون أن يسأل أي منهما عن والده ولو بمكالمة هاتفية!

عندما كان أصدقاء الأستاذ عبدالغفار القدامى يزورونه للاطمئنان على صحته ويسألونه عن ولديه، كان يتماسك ويؤكد لهم بإجابة كاذبة أنهما على اتصال دائم به رغم أن ابنه الأكبر محمود مشغول بعمله في مدينة القاهرة، وهو مع أنه لم يتزوج فإنه لا يجد دقيقة ليرتاح. ويضيف الأب أن ابنه محمود يتولى الآن منصباً كبيراً في البنك الاستثماري الذي يعمل به وزادت الأعباء عليه.

ثم ينتقل الأستاذ عبدالغفار للحديث عن ابنه الأصغر أحمد، فيقول كاذباً أيضاً إن الصيدلي مشغول دائماً بعمله في شركة الأدوية التي يعمل فيها صباحاً ثم بالصيدلية التي يقف فيها مع زوجته السكندرية مساء. ويتابع بصوت مخنوق بالدموع:

« الله يكون في عون الأولاد. الحياة بقت صعبة وخصوصاً في المدن الكبيرة. وأنا الحمد لله مش محتاج منهما حاجة»!

ولكن فات الأستاذ عبدالغفار أن يقول الحقيقة وهي أن ولديه بمجرد حصولهما على نصيبهما من الميراث انقطعا عنه تماماً. الابن الأكبر المحاسب محمود لم يكن مشغولاً في عمله للدرجة التي تمنعه من السؤال عن والده حتى بمكالمة هاتفية. كذلك الابن الأصغر الصيدلي أحمد لم يكن انشغاله في العمل الذي منعه من السؤال عن أبيه أعواماً إنما الحقيقة أن زوجته السكندرية هي التي عكّرت علاقته بوالده ودفعته دفعاً إلى عدم السؤال أو زيارة والده المريض بحجة بعد المسافة بين الاسكندرية واسوان. وللأسف رضخ الابن ضعيف الشخصية لطلب زوجته الحسناء التي لم يكن يستطيع أن يكسر لها كلمة أو يرفض لها طلباً، حتى ولو كان على حساب والده صاحب الفضل في الحياة الهانئة التي يعيشانها. وابتعد الابن الاصغر تماماً عن ناصر النوبة وكل ما فيها!

البحث عن إجابة

هل أخطأ الأستاذ عبدالغفار عندما وزّع الميراث على ولديه في حياته؟! كان هذا السؤال لا يفارق الأب المريض الأستاذ عبدالغفار. كان يبحث عن إجابة كل ليلة، وينام باكياً حزيناً. وفي الصباح ينطلق إلى مستشفى أسوان العام ليتلقى جرعة العلاج الكيماوي لإيقاف انتشار السرطان في جسده المنهك، وكانت هذه الجرعة طبعاً تتكلف شهرياً مبلغاً كبيراً لا يتمكن الأب المريض من جمعه إلا بصعوبة بالغة. وطبعاً لم يسهم في ثمن علاجه أي ابن من ابنيه، إذ رفض الأستاذ عبدالغفار أن يخبر ولديه بمرضه أو حتى حاجته إلى مصاريف العلاج.

وهكذا مضت الأيام ثقيلة بالأب المسن . الألم والحزن لم يفارقاه ولو لحظة. وكان طبيعياً أن تتدهور حالة الأستاذ عبدالغفار الصحية يوماً وراء الآخر، وأصبح علاجه يتطلّب أن يدفع مبلغ ألف جنيه شهرياً في حين أن معاشه الذي يتقاضاه عن سنوات عمله بهيئة سكك حديد مصر لم يكن يتجاوز مبلغ 550 جنيها فقط!

وهنا لم يجد أمامه سوى أن يتنازل عن عناده الصعيدي ويتصل بولديه ليطلب منهما مساعدته في دفع مصاريف العلاج. لم يستطع الأب المسن أن يقاوم كبرياءه كثيراً، فرغم رفضه الاتصال بولديه طوال السنوات الماضية فإنه رضخ أخيراً لنصيحة الأصدقاء والمعارف وأمسك بسماعة الهاتف ليتصل بابنه الأكبر محمود الذي رد عليه بجفاء وعدم اكتراث قائلاً:

أنا مشغول دلوقتي يا بابا. عندي اجتماع. حأكلمك بعدين يا بابا!

وضع الأب المسن سماعة الهاتف والحسرة تنهش قلبه. ومرت أشهر، ولم يتصل الابن الأكبر!

فكر الأب ألا يكرر الأمر بالاتصال بابنه الأصغر كي لا يخذله مثل ابنه الأكبر. ولكنه قال لنفسه «مستحيل أن يخذلني هو الآخر». اتصل، وتكرر الأمر مع أحمد، الذي تهرب من الرد على اتصال والده وسلم الهاتف الجوال لزوجته السكندرية لترد بدلاً منه قائلة بحدة وعنجهية:

معلش يا عمي. أصل أحمد مش موجود دلوقتي أول ما يرجع حأخليه يكلمك!

وبالطبع لم يتكلم الابن الأصغر هو الآخر!

رفع دعوى

سقطت السماعة من يد الأب، كاد الحزن والإحساس بالنكران يقضيان عليه في تلك اللحظة. ظل الأستاذ عبدالغفار مذهولاً مما سمعه: ابناه اللذان لم يحرمهما من شيء طوال حياته ثم سلمهما كل ما يملك ليبدآ حياتهما بكرامة ها هما يتهربان منه الأن وبكل وقاحة.

لم ينم الأب يومها. قرّر أن يتنازل عن كبريائه قليلاً. اجتمع بأقرب صديقين له وراح يشاورهما في أمر ابنيه الجاحدين. قال أحد الصديقين له:

**» اصبر احتمال مشغولين فعلاً وهيتصلوا بكرا أو بعده!».

الصديق الثاني قال له في ضيق:

** « ما تزعلش مني. ولادك محتاجين قرصة ودن!».

وأخذ الأستاذ عبدالغفار برأي الصديقين معاً. انتظر ثلاثة أيام ثم اتخذ قرار التأديب الصعب، بل والصعب جداً.

الأب المسن بعدما يئس في تدبير مصاريف العلاج توجه إلى محكمة جنح ناصر النوبة وأقام دعوى نفقة أقارب ضد ولديه. وقف الأب الحزين يبكي أمام المستشار محمد أبوسحلي، رئيس المحكمة، وراح يقص عليه حكايته مع ابنيه. وسأله رئيس المحكمة عن المبلغ الذي يريده كنفقة أقارب وأجابه الأب في أسى:

مش عاوز غير ألف جنيه في الشهر، ثمن العلاج الكيماوي.

وسأله رئيس المحكمة:

** وهتعيش منين يا أستاذ عبدالغفار؟

ورد الأب الحزين قائلاً:

_ ربنا ما بينساش حد يا حضرة القاضي.

وهنا التفت رئيس المحكمة إلى الأب المسن صاحب الدعوى وقال له:

** لا. عدِّل طلبك وخليه ألفين جنيه كل شهر.

ما قاله رئيس المحكمة ألقى بالراحة في قلب الأب الحزين، خصوصاً أن تحريات رجال المباحث أفادت بأن كل ابن من ابني صاحب الدعوى راتبه الشهري لا يقل عن 3 آلاف جنيه، بالإضافة إلى دخلهما أيضاً من الوديعة التي يمتلكانها من ميراثهما الذي منحه لهما والدهما. وتأجّلت الجلسة إلى حين مثول ابني صاحب الدعوى إزاء هيئة المحكمة في الجلسة المقبلة. خرج الأستاذ عبدالغفار مستنداً إلى ذراع أحد معارفه ودموعه تتساقط من عينيه لأن جحود أبنيه دفعه إلى إقامة دعوى ضدهما في المحكمة.

حكم المحكمة

بعد أيام قليلة، تلقى الأستاذ عبد الغفار مكالمتين هاتفيتين من ولديه لأول مرة منذ سبع سنوات كاملة. كانت الأولى من محمود، الأبن الأكبر الذي صرخ في والده مهدداً بأنه لن يدفع له شيئاً. وكانت المكالمة الثانية من ابنه الأصغر أحمد، وحملت كلماتها الحادة نفس التهديد!

وفي جلسة النطق بالحكم، لم يحضر أي من الابنين. ونطق رئيس المحكمة بالحكم وألزم الشابين بدفع كل منهما مبلغ ألفي جنيه لوالدهما، أي نفقة شهرية قدرها 4 الآف جنيه مع إعفاء الأب المسن من مصاريف دعوته.

وهنا اقترب الأب الحزين من منصة القضاء وهمس للقاضي قائلاً:

الأولاد مش راضيين يدفعوا ولا مليم.

ورد رئيس المحكمة قائلاً:

** اطمن هيدفعوا... لأنهم لو مادفعوش تأكد أن السجن حيكون مصيرهم.