فخ القواعد والأحكام الألمانية

نشر في 29-05-2018
آخر تحديث 29-05-2018 | 00:07
التكامل الأوروبي يدين بالفضل الكبير للفرنسي روبرت شومان والألماني هيلموت كول، فكلاهما أعطى أولوية للمصالح الاستراتيجية الأوروبية على السعي وراء مصالح وطنية فورية، واليوم ماكرون مستعد لترسيخ صورته كقائد يشبه هذين، لكنه يحتاج الى شريك ألماني يمكن التعويل عليه.
 بروجيكت سنديكيت لدى أوروبا مشكلة ألمانية جديدة، فعلى عكس الماضي لا تنبع المشكلة من طموحات الهيمنة أو من شكل الضعف الذي قد يغري بالعدوان، إنما المشكلة متجذرة في تخلي ألمانيا عن أي حس بالمسؤولية المشتركة في أوروبا على الرغم من وجود اقتصاد قوي فيها منذ سنة 1945، فالنهج الألماني "افعلوا كما نفعل أو اتركونا لشأننا" هو التعطيل والقصور في لحظة تحتاج فيها أوروبا وبشدة إلى الزخم.

كانت أوروبا لفترة طويلة مركز المخاوف الألمانية، ففي سنة 1994 على سبيل المثال قام ولفغانغ شويبله- الذي عمل في ذلك الوقت زعيما برلمانيا لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي وهو اليوم رئيس البرلمان الألماني البوندستاغ– وزميله في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي كارل لاميرس بكتابة ورقة بحثية دعوا فيها الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي بما فيها فرنسا للتحرك سريعا نحو المزيد من التكامل بما في ذلك الاتحاد السياسي.

لقد قاومت فرنسا الضغط الألماني لأن لديها شكوكا قوية فيما يتعلق بالفدراليه السياسية، فلم يرغب الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران أن يتحرك خارج نطاق إطار ماسترخت، وبعد أزمة منطقة اليورو سنة 2010، انتقل الجدل نحو الإصلاحات الهيكلية، حيث دعمت فرنسا المزيد من التكامل الاقتصادي، ولكن ألمانيا ربطت أي نقاش يتعلق بمستقبل منطقة اليورو بالإصلاحات الهيكلية الفرنسية، فقد وافق الرئيس فرانسوا هولاند من حيث المبدأ على تلك المقايضة ولكن الوقت لم يسعفه لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى عدم تمتعه بالدعم السياسي المطلوب.

أما اليوم فإن فرنسا تنفذ الإصلاحات المحلية التي كانت ألمانيا تطالب بها منذ زمن طويل، وتضغط باتجاه التغيير على مستوى الاتحاد الأوروبي، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يريد إنشاء أوروبا الفدرالية– لا أحد يعارض ذلك– بل يريد اتحادا أوروبيا سياديا قادرا على مقاومة ضغوط شخصيات كالرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني تشي جين بينغ والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

لسوء الحظ فإن ألمانيا تعارض مرة أخرى المقترحات الفرنسية، وعلى الرغم من أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل عادة ما تكيل المديح لماكرون لشجاعته وأهدافه المتعلقة بالسياسات، يبدو أنها مترددة في الموافقة على أي فعل لتقوية الاتحاد الأوروبي.

يعترف القادة الألمان أن الإصلاحات الفرنسية جيدة بالنسبة إلى فرنسا لكنهم يجادلون حاليا بأن إصلاحات منطقة اليورو هي مسألة منفصلة، وعلى الرغم من خيبة الأمل تجاه هذا الموقف، فإنه ليس مفاجئا، فميركيل قد ضعفت سياسيا والرأي العام الألماني لا يزال متأثرا بشكل كبير بالكلام الخطأ المتعلق بأن ألمانيا هي الجهة التي تقوم بدفع الأموال لأوروبا.

إن شويبله، وهو مؤيد سابق لفدرالية اليورو، قد خفض من سقف طموحاته بشكل كبير، وفي حين لا يزال يحلم بصندوق نقد أوروبي فإنه سيكون بمثابة آليه تضامن فقط، حيث سيكون الهدف الرئيس منه هو مراقبة ومعاقبة الدول التي تعاني ضعفا ماليا من أجل تقليل مسؤوليات مراقبة الميزانيات التي تقوم بها المفوضية الأوروبية.

إن الحقيقة هي أن ألمانيا تطمح أن تعيش في أوروبا الحد الأدنى، أي أوروبا تفتقد أي اتحاد سياسي، لكنها مرتبطة بآليات تأديبية بين الحكومات تصممها الدول الأكثر ازدهارا، وبعبارة أخرى ألمانيا تريد أن تزيل من الاتحاد الأوروبي أي أثر لروح المجموعة والسياسات المرتبطة بها، واستبدالها بنسخة غير واقعية من القواعد والأحكام المتشددة، علما أن الأحداث الحالية في إيطاليا تعزز موقف المتشددين الألمان، فربما لم تكن مصادفة أنه بعد ثلاثة أيام من إعلان الحكومة الإيطالية خطتها الاقتصادية– والتي إن طبقت ستفجر منطقة اليورو- نشر 154 اقتصاديا ألمانيا بيانا تفصيلي يعارضون فيه بقوة أي إصلاحات جوهرية لمنطقة اليورو.

لكن هذا الموقف يعكس ما يطلق عليه النسخة الألمانية من الليبرالية الاجتماعية التي تعكس الفكر الألماني وتشكل الفهم الألماني لأزمة منطقة اليورو، فألمانيا مثل هولندا ودول البلطيق تلقي باللوم فيما يتعلق بالأزمة على عاتق بعض الدول الأعضاء بسبب الطيش الخاص بالميزانية والمراقبة غير الكافية للدين الخاص مما يعني أنها ترفض أن تبحث بشكل صحيح في المشاكل الممنهجة لمنطقة اليورو وبعد ثماني سنوات من أزمتها لا يزال الأوروبيون يتبنون روايات متباينة فيما يتعلق بها، فكيف نتوقع منهم أن يتطلعوا قدما نحو المستقبل وهم لا يتفقون فيما يتعلق بما حدث في الماضي؟

إن الإقرار بأن منطقة اليورو لا يمكن أن تعمل إلا على أسس التضامن والترابط يعني الانخراط في ذلك النهج من التفكير الذي كان دائما يرفضه الليبراليون الاجتماعيون الألمان، فهم يرون الاقتصاد الوطني على أنه حاصل جمع الاقتصادات الجزئية والاقتصاد الذي يتجاوز الحدود الوطنية على أنه حاصل جمع الاقتصادات الوطنية، علما أنه بالنسبة إلى هولاء فإن التضامن قائم على أساس الإدارة المتماسكة والثابتة، وهذا المنطق يؤدي إلى ثلاث أطروحات تسبق التحليل الاستراتيجي الأساسي:

أولا، تتبنى ألمانيا الطرح الخيالي الذي يخدم مصالحها الذاتية، وهو أنها لا تدين بالفضل للآخرين على رخائها لكننا نعرف جيداً مدى اعتماد الاقتصاد الألماني على الطلب الأوروبي ومدى استفادته من التقييم المنخفض لليورو الألماني (في حين يعاني اليورو الإيطالي على سبيل المثال من التقييم المبالغ فيه). إن ألمانيا هي المستفيد الأول من سياسة البنك المركزي الأوروبي، وكما غرد الاقتصادي الألماني مارسل فراتزشير مؤخرا: "إن السخرية والمعايير المزدوجة التي لا تطاق بالنسبة إلى بعض السياسيين والاقتصاديين الألمان هي أنهم يهاجمون سياسات البنك المركزي الألماني، ومع ذلك فإن الحكومة الألمانية هي المستفيد الأكبر- 294 مليار يورو من وفورات الفائدة منذ 2007 ولو قارنا ذلك بالمخاطر التي تنطوي عليها الأزمة فإن ذلك يشكل صفقة ممتازة لألمانيا".

ثانيا، تصر ألمانيا على أن أي تباطؤ يجب أن يواجه بمزيد من الانضباط والتقشف لا بسياسات مواجهة التقلبات الدورية، وطبقا للقادة الألمان بغض النظر عن فداحة تأثيرات ذلك النهج فإنها وبكل بساطة الثمن الذي يجب أن يدفع مقابل الغفران بعد ارتكاب خطيئة تراكم الدين الزائد على الحد.

أخيرا، ألمانيا مقتنعة باقتصاد السوق، وأن مسؤولية الدولة هي وضع القواعد والأحكام لا توجيه خيارات اللاعبين الاقتصاديين، وفي واقع الأمر فإن التقرير الأخير من مؤسسة كيل للاقتصاد العالمي يصور فائض الحساب الجاري الضخم لألمانيا على أنه واقع لا يستطيع صناع السياسة تغييره؛ مما يعني القبول به، ولكن هذا يتجاهل الحقيقة التي سلط عليها الضوء غونترام بي ولف في دراسته الأخيرة، التي ذكر فيها أن الفائض الألماني الحالي في الحساب الجاري ليس نتيجة الرغبة الكبيرة للأسر التي تكبر بالسن على توفير المزيد من الأموال، ولكنه عائد إلى الاستثمار المحدود من الشركات التي تسعى إلى مقاومة الضغوط المتعلقة بالأجور.

إن هذا يشكل تحديا خطيرا لفرنسا، وإن أحد الخيارات للتغلب على العناد الألماني هو تبني سلسلة من التنازلات الصغيرة، ولكن وكما أشار بعض المراقبين الألمان المنتقدين مثل ولفغانغ مونشاو في صحيفة الفايننشال تايمز فإن ذلك قد يؤدي الى تنازلات الحد الأدنى التي قد تكون خادعة.

فالبديل هو المواجهة التي قد تنقل الجدل إلى الرأي العام الأوروبي، وربما هذا ما كان يحاول ماكرون إطلاقه في أكس لا شابيل في وقت سابق من هذا الشهر، عندما قدمت له ميركيل جائزة شارلمين بسبب جهوده المؤيدة لأوروبا. إن مثل هذه المواجهة يجب ألا تعوق التقدم في قضايا أخرى مثل أمن الحدود والاستثمارات في صناعات المستقبل وفرض الضرائب على الشركات التقنية الأميركية العملاقة والدفاع عن التعددية.

وإن التكامل الأوروبي يدين بالفضل الكبير للفرنسي روبرت شومان والألماني هيلموت كول، فكلاهما أعطى أولوية للمصالح الاستراتيجية الأوروبية (من خلال الجماعة الأوروبية للفحم والصلب ومنطقة اليورو على التوالي) على السعي وراء مصالح وطنية فورية، واليوم ماكرون مستعد لترسيخ صورته كقائد يشبه هؤلاء، لكنه يحتاج الى شريك ألماني يمكن التعويل عليه، ويرغب في تحدي صرامة الليبرالية الاجتماعية الألمانية التي تدعي أنها تهدف إلى تحقيق الازدهار الأوروبي، ولكن للأسف ليس من الواضح بعد ما إذا كانت ميركيل هي ذلك الشريك.

* زكي العايدي

* أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكان مستشارا لرئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

أحد الخيارات للتغلب على العناد الألماني هو تبني سلسلة من التنازلات الصغيرة
back to top