الملك العادل يُرسل رجاله بحثاً عن الخراب (14 - 30)

نشر في 30-05-2018
آخر تحديث 30-05-2018 | 00:03
تواصل شهرزاد سرد حكايتها عن الزهاد، بعدما انتهت من قصص التجار والصعاليك. في هذه الحلقة تحكي عن «الملك العادل» و«ابن البحر وأمه» و«القاضي وزوجته» والملك الصالح».
المثير أن قصص الليالي في هذا الجزء تنطلق إلى مناطق غير معتادة، إذ تحكي واحدة من هذه الحكايات عن قاضٍ اشتهر بإقامة العدل والحكم بين الناس بالحق ينتمي إلى بني إسرائيل، غادر بلدته قاصداً «بيت المقدس» للزيارة. وتحكي القصة اللاحقة عن زاهدة مسلمة تحج إلى مكة وهكذا... وربما كان السبب في ذلك، أن مجتمع الليالي لم يكن يعرف المُعضلات السياسية التي نعيشها الآن، والتي عرفتها البلاد العربية بعد ذلك.
لما كانت الليلة التاسعة والخمسون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أن الملك العادل كسرى أنوشروان، ملك الفرس، قال يوماً لأعوانه من الأمراء والوزراء والقواد: إني أشعر بضعفٍ في بدني، ولا علاج لهذا الضعف سوى شيء واحد وجدته في بعض الكتب. فسألوه: ما هذا الشيء ونحن نجيئك به في أقرب وقت؟ أجابهم: هذا الشيء هو حفنة من التراب تؤخذ من دار متخرِّبة. فقالوا: هذا شيء يسير.

ثم أخذوا يطوفون في أنحاء المملكة كلها باحثين عن دار متخربة ليأخذوا شيئاً من ترابها ويرجعوا به إلى الملك، ولكنهم بعد سنة كاملة أمضوها في البحث، رجعوا إليه بغير التراب المطلوب، وقالوا له: قد طفنا بالمملكة كلها ودخلنا جميع دورها، فلم نجد فيها أي دار غير عامرة.

لما سمع كلامهم، ابتسم وقال لهم: الآن أشعر بالصحة والسعادة، لما تيقنت من أن مملكتي خالية من أي موضع مُتخرِّب، وهذا دليل على العدل في الحكم، لأن العدل هو الذي يُعمِّر الممالك، ويجعلها تعيش في نعيمٍ وسلامٍ وسرور. أما إذا كان الملك جائراً، فإن أعوانه يكونون جائرين مثله، فلا تلبث المملكة أن يعمها الدمار والخراب، إذ يهرب أهلها من الظلم، ويتركون دورهم ومزارعهم ومتاجرهم، ولا تلبث خزائن الملك قليلاً حتى ينفد ما فيها، ولا يدخلها شيء بعد ذلك. وهكذا يجد الملك الظالم نفسه بغير مالٍ ولا رجال، ويعيش ما بقي من حياته في أسوأ حال، ثم يكون جزاؤه في الآخرة أشد النكال والوبال وبئس المآل.

اقرأ أيضا

القاضي وزوجته

مضت شهرزاد فقالت للملك شهريار: يحكى أنه كان في بنى إسرائيل قاض اشتهر بإقامة العدل والحكم بين الناس بالحق، واتفق أنه غادر بلدته قاصداً إلى بيت المقدس للزيارة، وترك زوجته في رعاية أخيه، وأوصاه بها خيراً، وكانت هذه الزوجة باهرة الجمال، كريمة الخلال، ومشهورة بالأدب والكمال، فدخل الشيطان قلب أخيه، وفتنه جمالها، فراودها عن نفسها، ولما صدته ونهرته، اغتاظ منها وخشي أن تصرح لأخيه عند رجوعه بما كان من أمره معها. فاحتال حتى أعطاها مُخدراً، وزعم أنها ماتت، وأقام لها جنازة عظيمة ودفنها حيّة، وصار يتظاهر بالبكاء حزناً عليها، والناس يعزونه وهم لا يعرفون حقيقة الأمر!

واتفق أن زوجة اللحاد الذي دفن الضحية، توفيت في تلك الليلة نفسها، فجهَّزها وحمل جثتها ليلاً لدفنها مع زوجة القاضي، فلما فتح القبر ووضع فيه جثة زوجته، وأراد الخروج، سمع أنيناً خافتاً، فتملكه الخوف، وما لبث أن تبين أن زوجة القاضي هي التي تبكي جالسة في قبرها، فأخرجها منه وسألها: كيف عدتِ إلى الحياة بعد موتك ودفنك؟ فروت له قصتها مع شقيق زوجها، وطلبت منه أن يخفيها في بيته إلى أن يعود زوجها من بيت المقدس. فقال لها: سمعاً وطاعة.

ولما رجع زوجها القاضي العادل، وسأل عنها أخاه، أخبره وهو يبكي أنها ماتت عقب سفره، فصدَّقه وجدد لها مأتماً، وجلس في بيته وأخوه معه لتقبل العزاء، ثم أقبل ذلك اللحاد عليهما مع المُعزين، ولما رأى الجميع يبكون لبكاء القاضي وأخيه، أخذ يضحك بصوت عال، فالتفت إليه أخو القاضي وسأله: كيف تضحك وحدك ونحن جميعاً نبكي كما ترى؟ فأجابه: إنما أضحك لرؤيا رأيتها ليلة أمس في منامي، وهي رؤيا خاصة بأخيك القاضي وزوجته، ولهذا جئت لأقصَّها عليه وأطلب إليه تفسيرها.

لما سمع القاضي كلامه، تعجب من هذا الأمر، وسأله: ما هي رؤياك يا أخي؟ فقال له: إنى رأيت زوجتك في المنام، فأخبرتني بأنها لم تمت حقيقة، وإنما احتال أخوك حتى أعطاها مخدراً ودفنها حية، لأنه راودها عن نفسها فأبت، وقد أوصتني في المنام أن أبلغك ذلك، وقالت لي: إذا كان زوجي يريد رجوعي إليه، فليأت إلى القبر الذي دفنني فيه أخوه، ثم يناديني باسمي، فأجيب نداءه وأخرجُ إليه.

فقال شقيق القاضي للحاد: أنت تكذب علينا، والناس جميعاً يشهدون بموت زوجة أخي، وبحزني عليها. ثم همَّ بضربه وطرده، ولكن القاضي منعه، وقال ماذا علينا لو صدقناه الآن، ثم نذهب إلى ذلك القبر ونناديها كما يقول: فإن هي لم تُجب النداء، تحققنا كذبه وعاقبناه؟

ووافق الحاضرون جميعاً على رأي القاضي، ثم قاموا وتوجهوا إلى القبر، فلما وصلوا إليه، وقف القاضي ونادى زوجته باسمها، وإذا بها ترد النداء فوراً، وتقول له: افتح باب القبر كي أخرج منه!

تعجَّب القاضي والناس من ذلك الأمر، ثم تقدم اللحاد وفتح باب القبر، فخرجت منه الزوجة حية سليمة تمشي على قدميها، ورجعت مع زوجها إلى داره حيث روت له قصة أخيه معها، وكيف أنقذها اللحاد، ثم اتفقت معه على تلك الحيلة لتفضح أخاه أمام الناس.

ولما بحث القاضي عن أخيه ليعاقبه على جريمته، لم يعثر له على أثر، ثم تبين أنه غافل الناس عند انصرافهم من القبر ودفن نفسه فيه حياً، ثم تنبه بعض الناس إلى أن باب القبر مفتوح، فأغلقوه عليه، حيث مات مختنقاً فيه!

ابن البحر وأمه

لما كانت الليلة الستون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: يحكى عن أحد المشايخ الصالحين أنه قال: حججت إلى بيت الله الحرام في إحدى السنين. بينما أنا أطوف بالكعبة المطهَّرة في ليلةٍ مُظلمة، إذ وصل إلى سمعي صوت رقيق حنون يدعو الله قائلاً: يا كريم يا حليم يا عظيم، أنا في شوق إلى لطفك القديم، وخيرك العميم، وفؤادي على العهود مقيم. لما بحثت عن مصدر ذلك الصوت، وجدته صادراً عن امرأة جالسة هناك، وبين يديها طفل وليد نائم في حجرها، فألقيت عليها السلام، ولما ردت في أدب واحتشام، قلت لها: سألتك بالله الذي أنت بين يديه، أن تخبريني ما العهد الذي أنت مقيمة عليه؟

أجابتني: لولا أنك سألتني بالله، الذي لا أعبد إلا إياه، ما أخبرتك بشيء من أمري، وأبقيته في صدري بقية عمري. ثم سكتت قليلاً وقالت: إني خرجت للحج وأنا حامل بهذا الوليد النائم في حجري الآن، وكنت راكبة في سفينة كبيرة، فهاج البحر واضطربت أمواجه وهي تمخر عبابه، ولم يمض إلا قليل حتى تحطمت السفينة وغرقت بمن فيها، وكان من نصيبي أن يدي وقعت على لوح كبير من ألواحها المتناثرة، فوق الماء الذي وجدت نفسي فيه، فتعلقت بذلك اللوح، وبقيت راكبة فوقه، والأمواج والريح تدفعه إلى أن جاءني المخاض في صباح اليوم التالي، فوضعت ولدي هذا، ولففته ببعض ثوبي، وتضرعت إلى الله جل شأنه أن يرحمه ويرحمني، ويكتب له ولي النجاة بمنه وكرمه ولطفه وإحسانه. وفيما أنا كذلك وقد فوضت الأمر كله إلى الله، إذا بأحد بحارة السفينة الغارقة يقبل نحوي سابحاً في الماء إلى أن تعلق باللوح الكبير وأنا فوقه ومعي وليدي، ثم صعد إلى سطحه وجلس بجانبي، وأخذ يتطلع إلى ما ظهر من جسمي بعدما تجردت من ثوبي لألف به الوليد، فقلت له: يا عبد الله اتق الله، فالله أحق أن تخشاه. ولكنه تمادي في غوايته، وأبي إلا أن يمضي إلى غايته، وقال لي: إنني منذ رأيتك لأول مرة في السفينة، قد فتنت بجمالك، وطمعت في وصالك، وما منعني من ذلك إلا غرق السفينة وتعرضنا للمهالك، وما دام القدر قد جمعنا الآن، فلا بد من التمتع بحسنك الفتان. فقلت له: إننا الآن في محنة وبلية، ولا تُرجى لنا النجاة إلا بإخلاص النية، والعبادة القلبية. فقال لي: إني وقعت في مثل هذه المحنة كثيراً ثم نجوتُ منها، فلا أبالي شيئا. ثم تحفَّز للهجوم عليّ، غير عابئ بكلامي، مهدداً إياي بأن يقذف بي إلى الماء إن لم استسلم له، فلما أيقنت بأن النصح لا ينفع معه وإني لا أستطيع رده بالقوة، عمدت إلى الحيلة للخلاص منه، فقلت له: ما دمتَ مصراً على هذا الأمر، ولا تطيق صبراً حتى نخرج إلى البر، فانتظر قليلاً حتى ينام هذا الطفل الذي يبكي في حجري كما ترى.

لما سمع كلامي، اشتدّ غضبه، وهجم عليّ كالوحش الضاري، وانتزع الطفل من حجري وقذف به إلى الماء، فكاد عقلي أن يطير من رأسي جزعاً من فقد وليدي، وصرت أبكي وأدعو الله أن ينتقم لي من ذلك الشيطان الرجيم، فما أتممت دعائي حتى ظهر على وجه الماء حوتٌ كبير، مدّ فمه فوق اللوح الذي نركبه فاختطف ذلك البحار المجرم الأثيم وابتلعه، ثم انطلق في سبيله حتى غاب عن بصري وسط الأمواج، وتذكرت ما جرى لي وغرق وليدي، فأنشدت باكية هذه الأبيات:

قرة العين حبيبي ولدي

أوهن الحزن عليه جلدي

ذهب الموج على عيني به

فإذا النار تشوي كبدي

أنت يا رب ترى ما حل بي

وترى ما هدني من كمدي

أنا في كربين، مالي منهما

غير لطف الله من معتمد

وبقيت على تلك الحالة طوال ليلتي، فلما طلع النهار، إذا بسفينة كبيرة تقترب مني، ثم التقطني بحارتها من فوق اللوح وحملوني إليها حيث عالجوني بالدفء والطعام والشراب، وما كدت أسترد قواي وأفتح عيني على ما حولي حتى رأيت ولدي نائماً في مهد بجانبي، فقمت وأخذته في حجري وجعلت أقبله وأبكي متعجبة من نجاته ووجوده في تلك السفينة، ثم علمت من بحارتها أنهما شاهدوه نائماً على ظهر حوت كبير في الماء على مقربة من سفينتهم، فحملوه إليها، وكانوا في حيرة من أمر إرضاعه إلى أن أنقذوني وجاؤوا به عندي لأتكفل به وهم لا يعلمون أنه ولدي. ولما حدثتهم بكل ما جرى لي، تعجبوا غاية العجب، ثم أخذنا جميعاً نحمد الله على فضله ولطفه، وما زلت وولدي في تلك السفينة حتى رست على البر، وغادرتها مواصلة رحلتي إلى هنا حتى وصلت في رعاية الله.

قال الشيخ الصالح: فلما سمعت كلامها، هنأتها بالسلامة، وحاولت أن أساعدها ببعض المال، فقالت لي: حاشا لله أن أكون في رحاب بيته مغمورة بكرمه ثم أمد يدي إلى سواه، فسألتها الدعاء لي بالخير.

العبد الصالح

قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: انحبس عنا المطر في البصرة في إحدى السنين، وخرجنا مراراً للاستسقاء، فكنا نصلي ونتضرع إلى الله أن يرحنا وينزل علينا الغيث، ثم نرجع خائبين كما ذهبنا. بقينا كذلك أياماً، حتى مس الناس الضر، واشتد القحط، إذ احترق الزرع، وجف الضرع، ثم خرجت إلى المصلى ومعي ثابت البناني، وبقينا طول النهار نصلي ونتضرَّع، ثم قررنا أن نمضي ليلتنا في المصلى وحدنا، بعدما رجع من كانوا معنا إلى المدينة، ورجع معهم أصحابنا: عطاء السلمي، ويحيى البكاء، ومحمد بن واسع، وأيوب السختياني، وحبيب الفاسي، وحسان بن أبي سنان، وعتبة الغلام، وصالح المزني. لما جُنّ علينا الليل، إذا بعبد أسود، دقيق الساقين، عليه مئزر مهلهل يصلي في خشوع عظيم، ثم رفع يديه ووجهه إلى السماء ودعا الله قائلاً: إلى متى ترد عبادك خائبين، وأنت وحدك رب العالمين؟ بحقي عندك ألا ما فتحت خزائن رحمتك، وأفضت على الناس من برّك ونعمتك، الغوث الغوث، يا منزل الغيث.

فما أتم الرجل هذا الدعاء، حتى أمطرت السماء، وامتلأت الطرقات بالماء.

قال مالك بن دينار: تعجبنا من ذلك غاية العجب، وقلت لذلك العبد: بأي شيء وصلت إلى هذه المنزلة؟ فقال لي: تأدب يا عبد الله في حق الله، إنه تعالى قد هداني إلى التوحيد، وملأ قلبي من حبه بما ليس عليه مزيد، فكيف لا يحبني كما أحببته، وكيف لا يجيبني إذا دعوته؟

ولما غادر المصلى بعد ذلك، تبعته ومعي ثابت البناني من بعيد، فرأيناه يدخل دار نخاس قريبة من هناك، فمضينا إليها ودخلنا حيث قابلنا صاحبها وقلنا له: هل عندك غلام للخدمة نشتريه؟

فقال لنا عندي أكثر من مئة غلام للبيع، فاختاروا من بينهم من يعجبكم وعرضهم علينا فلم نجد صاحبنا بينهم.

ولما هممنا بالانصراف حانت منا التفاتة إلى ركن خرب منعزل بالدار، فرأينا صاحبنا جالساً هناك يؤدي بعض الأعمال، ولما عرضت على النخاس رغبتي في شرائه، قال لي: ما أحسبه يصلح لشيء، فهو دائم البكاء طوال النهار، ولا هم له بالليل إلا الصلاة، ولكني أصررت على شرائه، راضياً بكل ما ذكره النخاس من عيوبه المزعومة.

وبعدما انصرفنا به، سألته في الطريق عن اسمه، فقال لي: اسمي ميمون يا سيدي، وما أراك إلا خسرت الدراهم التي ابتعتني بها، لأن من كان مشغولاً بخدمة الخالق لا يصلح لخدمة المخلوق. ثم جعل يبكي ويناجي الله قائلاً: يا رب لماذا فضحتني بين خلقك؟ بحقي عندك لا تشغلني عنك إلا بك، واقبض روحي إليك راضية يا أرحم الراحمين.

قال مالك بن دينار: ولما بلغنا في طريقنا ذلك المصلى الذي كنا فيه، دخلناه للصلاة، ولما انتهينا من صلاتنا... التفتنا إلى ميمون، فإذا هو ما زال ساجداً، وطال انتظارنا وهو كذلك، ثم اقتربنا منه فإذا هو قد مات في سجوده، وأشرق وجهه بنور الرضا واليقين، فجهزناه ودفناه وترحمنا عليه، وما أحسن ما قيل في مثل هذه الحال:

مجال قلوب العارفين بروضة

سماوية من دونها الموت في الحب

إذا بلغوها استقبلتهم طيوبها

وصاروا سكارى بالذي تم من قرب

ومن لقي الأحباب من بعد غيبة

فرحته في الوجه تأتي من القلب

وهنا أدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

حوت ينقذ الأم من الاغتصاب بابتلاع الآثم وآخر يحمل رضيعاً على ظهره حتى أوصله إلى السفينة

زوجة القاضي تخرج من القبر حية بعد أسبوع من دفنها بخديعة من شقيق زوجها
back to top