ثم قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أيها الملك السعيد، أن شاباً من الصالحين الزاهدين، كان متزوجاً بفتاة صالحة زاهدة مثله، وبقيا أعواما عدة وهما يعبدان الله حق العبادة، ولا تزيدهما الأيام إلا تقوى وزهداً. وكانا يعيشان من بيع أطباق ومراوح يتعاونان على صنعها. فلما مرَّ الشاب على قصر أحد الوجهاء، رأته زوجة صاحب القصر، وأحبَّته لملاحة وجهه ونضرة شبابه، فأرسلت إليه خادمتها تدعوه إلى مقابلتها، وما كاد يدخل القصر، حتى أغلقت الباب عليه، ثم قالت له: إني عشقتك منذ رأيتك، وإن لم تبادلني العشق فلا تلومن إلا نفسك، لأني في هذه الحالة أصرخ أنا وخادمتي، ونتهمك بأنك اقتحمت علينا القصر، وأردت بنا السوء! لما سمع الشاب كلامها، أطرق حياء من الله، وفاضت عيناه بالدمع من خوف عقابه، كما قال الشاعر:

مجال قلوب العارفين بروضة

Ad

سماوية من دونها الموت في الحب

إذا بلغوها استقبلتهم طيوبها

وصاروا سكارى بالذي تـــم من قرب

ومن لقي الأحباب من بعد غيبة

فرحته في الوجه تأتي من القـلب

ثم أراد التخلص من هذا المأزق بالحيلة، فقال لها: إن كان لا بد مما دعوتني إليه، فأمهليني قليلاً حتى أغتسل وأتطيب. فقالت له: هذا أمر يسير. ثم أمرت خادمتها بأخذه إلى الحمام وإعطائه ثياباً جديدة حسنة، وأنواعاً من أغلى العطور، فنفذت الخادمة أمر سيدتها. ولما دخل هو الحمام أغلق عليه بابه من الداخل، ووقف يفكر في طريقة تخرجه من ذلك القصر، فوجد في الحمام نافذة تطل على الشارع، ولكنها مرتفعة لا يأمن على حياته إذا قفز منها إلى الأرض، فقال لنفسه: الموت أحب إليَّ مما دعتني إليه تلك المرأة، ثم رفع وجهه ويديه إلى السماء، ودعا الله منشداً هذه الأبيات:

أشار القلب نحوك والضمير

وأنت بكل خافية خبير

أيا من بابه يسع البرايا

ومن هو وحده العالي القدير

أعوذ بنور وجهك من أمور

أنا منها بعطفك مستجيـر

فإن قدرت لي موتاً سريعاً

فمعتقدي إلى الله المصير

وإن نجيتني وجبرت كسري

فأنت بكل مكرمة جدير

ثم توكل على الله، وألقى بنفسه من النافذة إلى الأرض، بعدما نطق بالشهادتين، فكتب الله له النجاة، ووصل إلى الأرض سالماً، ولم يزل يسير مسرعاً حتى رجع إلى زوجته وروى لها ما وقع من أوله إلى آخره، فقالت له: الحمد لله الذي صرف عنك الفتنة، ونجاك من تلك المحنة. ثم قامت وأوقدت التنور كعادتها كل يوم لإعداد ما يفطران به من صومهما، فقال لها: لأي شيء أوقدت التنور وليس عندنا ما نخبزه أو نطبخه؟ فقالت له: إن جيراننا تعودوا ذلك منا فإن لم نوقد تنورنا اليوم فسيدركون أن ليس عندنا ما نخبزه أو نطبخه.

وبعد ذلك بقليل، أقبلت جارة لهما، واستأذنت في أخذ شعلة متقدة من تنورهما، فأذنا لها في ذلك، وما كان أشد دهشتهما حينما صاحت بهما تلك الجارة وهي تشير إلى التنور: كيف تتركان خبزكما حتى كاد يحترق؟

ثم كانت دهشتها أشد حينما نظرت الزوجة في التنور فإذا هو ملآن بالخبز النقي الأبيض، وانصرفت الجارة راجعة إلى بيتها، وجلس الزوجان الصالحان يذكران الله ويشكران فضله حتى حان موعد الإفطار، فأكلا من ذلك الخبز، وبقي منه شيء كثير يفيض عن طعام سحورهما، فوزعاه على جيرانهما الفقراء، وقال الزوج لزوجته: شيء جاءنا من الله، يجب أن يخرج لله. وأمضيا ليلتهما في العبادة والتعبد إلى أن صليا الفجر، ثم أويا إلى فراشهما للنوم وهما يدعوان الله تعالى أن يزيدهما من فضله، ويعينهما على عبادته والقيام بطاعته. وقالت الزوجة لزوجها: ما دام الله سبحانه وتعالى يقبل دعاءنا، فلندعه كي ينزل علينا من السماء طعاماً لإفطارنا وسحورنا كل يوم، حتى نتفرغ للعبادة... فوافقها على ذلك.

وفي اليوم التالي، كان سرورهما عظيماً، إذ أجاب الله دعاءهما، وأرسل إليهما ما طلباه من طعام الإفطار والسحور، فلم يحتاجا إلى العمل في ذلك اليوم، ولما أويا إلى الفراش بعد ذلك للنوم، بعدما اعتزما الصوم، رأت الزوجة في منامها كأنها وزوجها في بيتهما بالجنة، وكان ذلك البيت من غير سقف، ولما سألت في ذلك، قيل لها: إن السقف كان موجوداً حينما كنتما تجمعان بين العمل والعبادة، فلما تركتما العمل وتفرغتما للعبادة اتكالاً على ما يرسله الله إليكما، صار بيتكما هنا بغير سقف!

ولما استيقظت من نومها، قصَّت رؤياها على زوجها، ثم بكيا كثيراً، واعتبرا بهذه الرؤيا، فرجعا إلى ما كانا عليه من الجمع بين العمل والعبادة، وبقيا كذلك إلى أن توفاهما الله، وأنعم عليهما بأجر العابدين العاملين.

الحجَّاج والمسجون

قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أن الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق في عهد عبد الملك بن مروان، ظفر برجل كان يطلبه، وأمر بوضعه في سجن ضيق مُظلم، وأن يترك فيه وحيداً فريداً مقيداً بقيد ثقيل، ثم تفقده بعد أيام، فلم يجده في السجن، فتعجب من ذلك غاية العجب، وتملكه الغيظ والغضب، فدعا حارس السجن وقال له: أخبرني كيف تمكَّن ذلك الرجل من الفرار أو أضرب عنقك! فقال له الحارس: إني تركته في السجن ليلة أمس، والقيد في يديه ورجليه، وسمعته ينشد هذه الأبيات:

يا مراد المريد أنت مرادي

وعلى فضلك العميم اعتمادي

ليس يخفى عليك ما أنا فيه

من عذابي وكربتي واضطهادي

سجنوني وخلفوني وحيداً

بين هذي القيود والأصفاد

إن تكن راضياً فلستُ أبالي

ولك الحمد من صميم فؤادي

ثم قال الحارس: ولما رجعت إليه صباح اليوم، لم أجده في السجن حيث تركته، ووجدت القيود ملقاة على الأرض.

ولم أدر كيف استطاع التخلص منها، ولا كيف خرج من السجن وبابه مغلق، ولم أشك في أنك ستأمر بقتلي، ولذلك أحضرت معي كفني بعدما ودعت أهلي!

لما سمع الحجاج كلام الحارس، قال له: لولا أنه مظلوم ما تقبل الله دعاءه، وأعانه على الخروج من سجنه. ثم عفا عن الحارس، وأنشد يقول:

رب مظلوم ضعيف إن دعا

سمع الله دعاه واستجاب

دعوة المظلوم مفتوح لها

كل باب، ما عليها من حجاب

الحداد وجارته

لما كانت الليلة الحادية والستون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أن رجلاً من الصالحين، سمع بمدينة فيها حداد يدخل يده في النار ويأخذ بها الحديد الحامي فيها من غير أن يصيبه أي أذى، فتوجَّه إلى تلك المدينة، وسأل عن دكان الحداد فدله الناس عليه.

لما وصل إليه، ورأه بعينيه يقبض على النار بيديه، قال له: إني غريب وأريد أن تقبلني ضيفاً عندك الليلة، فقال له الحداد: حباً وكرامة. وأخذه إلى منزله حيث قدّم له الطعام، وجلس يسامره ساعة ثم تركه وأوى إلى فراشه ونام، فقال الرجل الصالح لنفسه: كيف حصل مثل هذا الحداد على هذه الدرجة عند الله، وهو لا يعرف الصلاة والصيام، ويفضل النوم على القيام؟

ولما أقبل الصباح وتوجه معه إلى الدكان حيث شاهد فعله العجيب، لم يُطق صبراً على ذلك وسأله عن سر حصوله على تلك الدرجة، فقال له الحداد: إنني في شبابي كنت مولعاً بحب جارة لي حسناء، وحاولت كثيراً أن أبلغ مرادي منها، ولكنها لم تستجب لرغبتي، وأنذرتني بإعلان فضيحتي بين عشيرتي، فكتمت ما بي من وجد وغرام وعافت نفسي الطعام والمنام، وبقيت أعاني هذه الآلام أعواماً، ثم انقطع المطر في العام التالي، فعم القحط، وغلت الأقوات وجاع الناس. وفيما أنا جالس في داري يوماً، إذا بجارتي الحسناء تطرق الباب، فلما فتحته لها وأدخلتها قالت لي: إن لنا ثلاثة أيام لم نذق طعاماً، وقد جئت إليك راجية أن تجود علينا بشيء نقتات به، ويكون لك الأجر والثواب من الله.

قال الحداد: لما سمعتُ جارتي المحبوبة تشكو شدة الجوع، ورأيت ما هي عليه من الذل والخضوع، اشتد ما بقلبي من الحب والولوع، ووسوس الشيطان في صدري أن أنتهز هذه الفرصة لأبلغ منها وطري، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبي خشيته، فكتمت في قلبي وجده وصبابته، وأعطيتها ما تيسر من الطعام، وتركتها ترجع إلى بيتها بسلام.

ومضت على ذلك ثلاثة أيام أخرى، والمجاعة ما زالت على حالها، ونفسي متعلقة بجمال جارتي والشوق إلى وصالها، وفيما أنا في داري أفكر فيها، إذ بها تحضر بنفسها مرة أخرى، وتسألني شيئاً من الطعام وهي تبكي بكاء مراً، فحدثتني نفسي أن أشترط عليها نيل بغيتي، قبل أن أمنحها معونتي، وما كدت ألمح لها بذلك من بعيد، حتى بدا في وجهها أثر الحزن الشديد، وفاضت من عينيها العبرات ورجعت إلى بيتها وهي تنشد هذه الأبيات:

أيا واحداً إحسانه شمل الخلقا

إليك شكوت اليوم يا رب ما ألقى

رضيت بما قدرت لي من خصاصتي

وجوعي الذي قد كاد يفقدني النطقا

ولكنني ما عشت أحفظ عفتي

وإن كان موتي دونها واقعاً حـقا ً

ولا خير في عيش بغير تعفف

فلذته تفنى، وآثامه تبقى

قال الحداد: لما رجعت جارتي إلى دارها، جلست وحدي أفكر في أمرها، إلى أن جُنَّ عليَّ الليل، وأنا في هم وويل.

ثم قلت لنفسي: هذه امرأة ناقصة العقل والدين ومع هذا تخاف الله رب العالمين، وتفضل الموت جوعاً على اقتراف الإثم المبين، فدعوت الله أن يتوب عليَّ، ولا يجعل للشيطان سبيلاً إليّ...

ثم قمت فأخذت بعض ما ادخرت من طعام وماء، وخرجت من داري متسللاً في الظلماء، وطرقت باب جارتي، فلما فتحت الباب ورأتني، سألتني: ماذا تريد؟ فأجبتها: لا تخافي ولا تحزني، واعلمي أني تبتُ إلى الله وندمت على ما فعلت، وما جئت إليك الآن إلا كي أعطيك بعض الطعام والماء، ولما تحققت حسن نيتي وسلامة طويتي، قبلت هديتي، وشكرتني على مروءتي ثم رفعت وجهها إلى السماء، وتضرعت إلى الله بالدعاء، قائلة بصوت خافت حزين، يختلط به البكاء والآنين: اللهم إن كان عبدك هذا صادقاً في توبته، ولم يقصد إلا وجهك بهديته، فاكتبه عندك من عتقاء النار، ونجه منها في الدنيا والآخرة يا غفار يا ستار.

قال الحداد للشيخ الصالح: ثم رجعت إلى داري، ونمت والمدفأة إلى جواري، فلما استيقظت في الصباح، وجدت النار عالقة بثيابي، ولكنها لم تصبني بأي أذى، فأدركت أن الله قد استجاب لدعاء جارتي، وتوجهت إليها لأبشرها بسلامتي، فلما رويت لها ما كان، قالت: هذا من فضل الرحمن، أسأله تعالى أن يتم علينا نعمته، ويكتب لنا رحمته. فما انتهت من دعائها، حتى شهقت شهقة لفظت فيها آخر أنفاسها، فقمت بتجهيزها ودفنها، وما زالت دعوتها لي باقية الأثر، فأقبض بيدي على الجمر ولا يصيبني أي ضرر.

الجارية وضمرة بن المغيرة

قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، عن الخليفة هارون الرشيد أنه أصيب ليلة بالأرق، واشتد ما يعانيه من القلق، فدعا إليه بالأصمعي وحسين الخليع، وقال لهما: إني للنوم غير مُستطيع، وقد دعوتكما لتحدثاني، لعلي أنسى بحديثكما أشجاني.

فقال حسين الخليع: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين، بحديث لم يسمعه من قبلك أحد من العالمين، ذلك أني توجهت إلى البصرة في إحدى السنين، ونزلت في ضيافة واليها محمد بن سلمان، بعدما مدحته بقصيدة، وخطر ببالي يوماً أن أخرج إلى «المربد». فلما بلغت منتصف الطريق، لم أقو على مواصلة السير، لشدة ما نالني من تعب وظمأ، ونظرت فيما حولي فوجدت داراً فخمة، لها باب كبير مفتوح، فأسرعت نحوها، ونظرت من الباب فلم أجد غير دهليز طويل فرشت أرضه بأفخر الأبسطة، وزينت جدرانه أبدع زينة، وفيما أنا أتأمل في ذلك وأتعجَّب من خلو الدار إذا بجارية تبرز أمامي، بقامة كغصن البان، ووجه كالورد في البستان، ولها عينان واسعتان ساحرتان من فوقهما حاجبان مزججان، وجبين يضيء بنوره المكان، وشعر أمسكت بعضه بإحسان وسرحت بعضه بإحسان، ومن تحتهما خدان أسيلان، وشفتان رقيقتان، تنفرجان عن أسنان كأنهما اللؤلؤ والمرجان..

وقد ازدان عنقها بعقود من الذهب والجمان، وفي صدرها نهدان كأنهما رمانتان، ولها ذراعان ملفوفتان، ويدان بضتان، وساقان تياهتان بما تحملان.

لما رأيتها يا أمير المؤمنين وقفت في ذلك المكان وأنا حيران ولهان، معقود اللسان، طائر الجنان، إذ سحرني جمالها الفتان، ثم جاهدتُ نفسي، حتى رجع عقلي إلى رأسي، وألقيت عليها السلام، فردت بصوت كسجع الحمام ثم تركتني وجلست على مقعد بجانب الباب، وأطرقت مفكرة في قلق واضطراب، فقلت لها: يا سيدتي، إني شيخ غريب، وبي ظمأ شديد، فهل تأمرين لي بجرعة ماء، ويكون لك الأجر والثواب من رب السماء؟

لما سمعت الجارية كلامي، وفهمت مرامي، قالت لي: إن هذه الدار خالية من السكان، فإذا شئت الطعام والشراب فاقصد غير هذا المكان، ثم تنهدت من قلب متيم متبول، وأنشدت تقول:

وكنا كغصني بان وسط روضة

نعب من الأنسام في عيشة رغد

فأفرد هذا الغصن من ذاك بغتة

فيامن رأى فرداً يحن إلى فرد؟

فعلمت أنها عاشقة مفارقة، وقلت لها: إني فلان يا سيدتي وقد تمزق قلبي لوحدتك، فحدثيني عن سبب كربتك، لعلي أتمكن من خدمتك، وحصولك على طلبك، فقالت لي: إني كنت سعيدة بحب أمير شاب، لم يخلق الله من هو أجمل ولا أكمل منه في عصره، وقد شيد لي قصراً في المربد، عشنا فيه معاً وكأننا في الجنة، ثم اتفق أن دخل عليّ مرة في غرفتي، فوجد معي جارية لي، كانت قد شربت حتى ثملت، وأخذت من فرط سكرها تعانقني وتقبلني وتنشد الأشعار متغزلة في جمالي. فلما رأى ذلك المنظر، اتقدت الغيرة في قلبه، ورجع من حيث أتى، ثم هجرني منذ ذلك الحين، ولم يعد يأتي إلى قصري، وعبثاً حاولت أن أخبره بجلية أمري، كي يقبل عذري، ولي الآن أكثر من سنة وقلبي يحترق بنار الأشواق، ولا أعرف للطعام والشراب والنوم أي مذاق، لشدة ما أعاني من مرارة الفراق، وقد اعتدت أن آتى إلى هذه الدار، وأجلس فيها وحدي ساعة من النهار، وكل أملي أن أراه من بعيد حين يمر عليها في طريقه إلى قصره الجديد.

فقلت لها: من يكون هذا الأمير المحبوب؟ فقالت: هو ضمرة بن المغيرة.

فقلت لها: أنا أعرفه حق المعرفة، فاكتبي له رسالة بما تريدين ولك عليَّ أن أحملها إليه ولا يكون إن شاء الله إلا ما تحبين.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد