جلست الحاجة أحلام في صالة فيلتها الفارهة بحي المهندسين والدموع تترقرق في عينيها تفكر في أحوال زوجها الحاج رشدي التي تغيرت 180 درجة. لم يعد هو الزوج الطيب الحنون، أصبح رجلاً آخر. صار ثائراً دائماً، يغضب ويصمت، ويشرد باستمرار ولا يقوى على الجلوس في المنزل أكثر من ساعة!من أعماق الماضي جاءها صوت زوجها يقول:
يا سلام يا أحلام لو بقيت غنياً!انهمرت دموع الحاجة أحلام وراحت تستعرض شريط ذكريات طويلة مدته 25 عاماً. كانت بدايته عندما تلاقت عيناها بعيني رشدي البسيط الذي يعمل على إحدى سيارات نقل البضائع.وقتها كان رشدي شابا بائساً، الفقر يحيط به من كل جانب. وكانت أحلام فتاة جميلة ولكنها فقيرة. خرجت لتساعد والدها في إعداد أكواب الشاي والقهوة في أحد مواقف السيارات. وهناك وقعت عيناها على رشدي البسيط. وبسرعة انجذبت إليه. رق قلبها له ولحاله ودق قلبها معلناً السقوط في حب الشاب الفقير.
الاعتراف بالحب
لم تمض أيام على لقائهما الأول حتى باح رشدي بحبه للفتاة الجميلة أحلام. انطلق رغم ظروفه المادية الطاحنة وطلب يدها من والدها الذي رفض العرض. ولكن إصرار أحلام على الزواج من رشدي أجبر الأب على الموافقة في نهاية الأمر.تحقّق الزواج. وانتقلت أحلام لتعيش مع زوجها الفقير في غرفة فوق سطوح إحدى العمارات في حي إمبابة الشعبي. وكما يُقال: السعادة لا تسكن إلا في العشش. فقد ملأت السعادة أركان الغرفة الصغيرة. وعاشت أحلام وزوجها رشدي أسعد لحظات حياتهما داخل هذه الغرفة التي لم تتعد مساحتها 3 أمتار X 4 أمتار فقط!رحلة مذهلة
ولأن السعادة قاعدة للانطلاق، فقد انطلق وقتها الزوج الشاب رشدي في عمله بفضل دعوات زوجته أحلام له. وبعدما كان نجح في إدخار مبلغ من المال دفعه مقدم سيارة نصف نقل ليبدأ بها رحلة نجاح مذهلة.لم تمر سوى سنوات قليلة حتى نجح رشدي في سداد أقساط السيارة نصف النقل وتدفقت الأموال على الشاب الفقير وتبدلت أحواله المادية ووضع قدماً على طريق الثراء السريع. أما أحلام فقد كانت تعيش أسعد أيامها في كنف زوجها المجتهد. وتكللت فرحتها بإنجابها ثلاثة أولاد كانوا وجه السعد عليها وعلى زوجها.ضاقت الغرفة الصغيرة التي عاش فيها رشدي وزوجته أحلام وأولادهما الثلاثة فانتقلوا ليقيموا في شقة واسعة بنفس الحي الشعبي (إمبابة)... وتوسع أيضا حجم تجارة رشدي وأصبح بعد سنوات قليلة يملك خمس سيارات للنقل وزاد رصيده في البنوك وافتتح شركة للنقل ودخل في زمرة الأثرياء من أوسع الأبواب.تغيّر الأحوال
بعد سنوات قليلة تبدّلت الأحوال تماماً. لم تعد الشقة الواسعة بحي إمبابة تليق بالحاج رشدي صاحب شركة النقل الكبرى. لذلك اتخذ قراراً بشراء فيلا بحي المهندسين الراقي، خصوصاً بعدما زاد عدد الأولاد والبنات إلى خمسة. ورغم أن الحاجة أحلام كانت ترفض الانتقال لتقيم في حي المهندسين الراقي فإنها لم تستطع أن تخبر زوجها بما دار في رأسها. كانت الحاجة أحلام تشعر بأن السعادة والتوفيق اللذين لازما زوجها وهي معه أيضا طوال رحلة حياتهما سوف ينسحبان بالتدريج بمجرد دخولهما إلى تلك الفيلا الفارهة.وصدق حدس الحاجة أحلام!تسربت السعادة من بين يدي الزوجين السعيدين يوماً بعد يوم. وعاماً بعد الآخر.كبر الأبناء... وانشغل زوجها الحاج رشدي بعمله أكثر، خصوصاً بعدما أصبح أحد أكبر أصحاب شركات النقل في مصر كلها.ولم يكن انشغال الزوج الحاج رشدي في عمله مؤشراً إلى تسرب السعادة من حياة الحاجة أحلام، إنما كانت ثمة مؤشرات عدة من بينها على سبيل المثال لا الحصر غياب الزوج المستمر عن البيت وجلوسه شارد الذهن غالبية الوقت والمكالمات الغريبة والمريبة التي تصله في أوقات متأخرة من الليل. وأخيراً تبدلت أحواله لدرجة مزعجة. فقد ابتعد عن فريضة الصلاة التي كان دوماً يحرص على أدائها في أوقاتها. واصبح دائم السهر. بل وكان يعود معظم الأيام في ساعات متاخرة من الليل يترنح من أثر الإدمان!دعوة صريحة
لم تستطع الحاجة أحلام رؤية زوجها يهوي في هذه البئر السحيقة. اقتربت إليه ذات ليلة واستحلفته بكل غال بأن يعود إلى الطريق القويم. ولكن الزوج رشدي كعادته في الأيام الأخيرة انفجر في وجه زوجته بمفاجأة زلزلت كيان الأسرة كلها. قال الرجل في ثورة غضب عارمة:أنا كده وهأعيش كده. واللي مش عاجبه الباب يفوت جمل!كانت دعوة صريحة من الزوج لزوجته بالخروج من حياته كلها. وعقدت المفاجأة لسان الحاجة أحلام لم تنطق بكلمة. فقد دهمها إحساس بأن امرأة أخرى وراء كل هذه التغيرات التي حدثت لزوجها في الأونة الأخيرة.حدس
وكالعادة ومثل كل مرة، صدق حدس الحاجة أحلام!ذات يوم تلقت الزوجة البائسة مكالمة هاتفية من امرأة مجهولة أخبرتها خلالها بأن زوجها الحاج رشدي تزوج عليها سكرتيرته. وأغلقت صاحبة المكالمة الخط من دون أن تفصح عن شخصيتها.ولم تستطع الحاجة أحلام احتمال هذه الطعنة الغادرة. ظلت جالسة تفكر في تلك الكلمات التي ذبحتها بسكين بارد. فكرت أن تواجه زوجها بالأمر ولكنها قررت ألا تتسرع فربما كانت مجرد مكالمة كيدية الهدف منها هدم حياتها مع زوجها. اتخذت قراراً صعباً، وهو ضرورة مراقبة زوجها ليل نهار لتعرف الحقيقة.ولكن... لمن ستوكل الزوجة البائسة الحاجة أحلام مهمة مراقبة زوجها الحاج رشدي كي تتحقق من الأمر؟! هل تخبر ابنها الأكبر أم الأوسط أم الأصغر ليتولى أحدهم المهمة؟قالت لنفسها:- لا. أي حد من العيال ممكن يداري على أبوه ويكدب عليا علشان البيت ما يتخربش. ما فيش أحسن من الأغراب للمهمة دي.هكذا هداها تفكيرها. طلبت من سائق سيارة أجرة تولي المهمة ومنحته مبلغاً كبيراً من المال كي لا يخدعها ويعمل لصالح زوجها. وبدأ السائق مهمته. لم تمض أيام حتى عاد إلى الحاجة أحلام بالخبر اليقين!شقة العجوزة
قصّ السائق على الزوجة تفاصيل حياة زوجها كما راقبها لثلاثة أيام متواصلة. أكد أن الحاج رشدي يتوجّه يومياً إلى عمله عند آذان الظهر ولا يبقى في شركته إلا ساعة ثم يخرج منها بصحبة سكرتيرته الفتاة الصغيرة في السن، الشقراء والممشوقة القوام ويتوجهان إلى شقة بعمارة حديثة بحي العجوزة حيث يمضيان ساعات ثم يعودان... الحاج رشدي الى منزله والفتاة الشقراء إلى منزلها بمنطقة عين شمس الغربية الشعبية.دموع حارقة
كلمات السائق الذي كلفته الزوجة البائسة بمراقبة زوجها كادت تقتلها. بدموع حارقة منحت الحاجة أحلام السائق المبلغ المتفق عليه بينهما. ومع منتصف نهار اليوم التالي توجهت إلى عنوان العمارة الحديثة بحي العجوزة التي يتردد عليها زوجها وسكرتيرته. انتظرت حتى وصلا وصعدا إلى الشقة... وبخطوات ثقيلة صعدت الزوجة الذبيحة خلفهما. طرقت باب الشقة ففتح لها الحاج رشدي نصف عارٍ وقال في ارتباك واضح:أنا اتجوزت. أنا عشت طول عمري باشتغل وجه الوقت اللي لازم أرتاح فيه!وردت الحاجة أحلام بدموعها المنهمرة بكلمة واحدة:طلقني...عادت الحاجة أحلام إلى فيلتها بحي المهندسين... ولم يعد زوجها الحاج رشدي. حقق الزوج رغبة زوجته في هدوء. أرسل لها في اليوم التالي ورقة الطلاق وابتعد عن حياتها وحياة أولادهما الخمسة تماماً. ولكن من دون أن يترك لهم مليماً ينفقون منه على دراستهم أو حتى طعامهم! وانتظرت الحاجة أحلام أن يرسل طليقها مصروف البيت. ولكنه تجاهل الأمر تماماً فأسرعت إلى محكمة الأسرة دائرة العجوزة تطلب نفقة شهرية لها ولأولادها من طليقها الذي ألقى بهم إلى المجهول بعد عشرة عمر استمرت 25 عاماً.وعقدت المحكمة جلساتها، برئاسة المستشار خالد الشباسي وعضوية المستشارين محمد ناي وأحمد البدري وبحضور إيهاب الخولي مدير نيابة الأحوال الشخصية. وقدّمت الحاجة طلباً بالحصول على نفقة متعة توازي تعبها وسهرها الليالي الطويلة وكفاحها مع زوجها منذ أن كان شاباً فقيراً لا يملك شيئاً، ووقوفها إلى جواره طيلة 25 عاماً بدأ خلالها بالعمل كتباع على سيارة نقل حتى أصبح يملك أسطولاً من سيارات النقل وشركة من أكبر شركات نقل البضائع في مصر.كذلك طالبت الحاجة أحلام في أوراق الدعوى التي تقدمت بها بضرورة الحصول من طليقها الحاج رشدي على نفقة شهرية لها ولأبنائها الخمسة الذين ما زالوا يدرسون في مراحل التعليم المختلفة.حضر الحاج رشدي مع زوجته الشابة جلسات القضية. استمع إلى أقوال طليقته من دون أن يهتز له جفن، ومن دون أن يرق قلبه لعشرة ربع قرن كاملة. على العكس تماماً، كانت ترتسم على وجهه ابتسامة صفراء كلما تحدثت طليقته الحاجة أحلام باكية. وراح مع محاميه يقدمان لهيئة المحكمة أوراقاً رسمية تشير إلى مرور شركته المتخصصة في مجال النقل الثقيل بضائقة مالية لن يتمكن بسببها من دفع نفقة كبيرة لطليقته أو مبلغ نفقة شهرية لها ولاولادهما!وهنا قدّم محامي المطلقة طلباً بتعويض موكلته بدلاً من المال بكتابة طليقها فيلا المهندسين باسمها كي تؤمن مستقبلها ومستقبل أولادها في مقابل تنازلها عن نفقة المتعة، ما دام طليقها يمر بأزمة مالية كما يدعي. رفض الحاج رشدي هذا المطلب وقدم لرئيس المحكمة ما يفيد بأنه باع الفيلا لسداد ديون مقررة على شركته!ورغم تأكد هيئة المحكمة من عدم صحة الأوراق والمستندات التي قدمها الحاج رشدي بعد دراستها تجارياً ومحاسبياً وقانونياً على يد موظفي شركته، فإنها قضت بأحقية الحاجة أحلام في الحصول على نفقة متعة عن فترة زواجها، التي استمرت 25 عاماً، تقدر بـ 370 ألف جنيه ونفقة شهرية لها ولأولادها الخمسة تقدر بـ 1800 جنيه. وقال رئيس المحكمة إن ذلك أقصى ما يمكن لهيئة المحكمة الحكم به رغم تيقنها أن دخل الحاج رشدي يفوق ما قدمه لهيئة المحكمة. وغادرت الحاجة أحلام وأولادها الخمسة قاعة المحكمة لتطلب من سائق سيارة الأجرة التي أقتلها إلى المحكمة أن يتجه بها وبأولادها إلى شقتها القديمة بحي إمبابة حيث عاشت أسعد أيام حياتها ولكن هذه المرة ستعيش بمفردها من دون زوجها الذي اختفى ليعيش حياته مع امراة أخرى.تقول نهايات غالبية مثل هذه الحكايات إن بالتأكيد الزوجة الجديدة ستحصد كل ما زرعه الزوج طيلة السنوات الماضية وستتركه خالي الوفاض يعض أصابع الندم على عشرة غالية باعها بأبخس ثمن.