تبيّن للباحث الفرنسي كريستوف بيكار، على عكس السائد، أن الخلفاء والعلماء لم يهملوا الفضاء البحري. بينما كان البحّارة والمحاربون والتجّار يجوبون المتوسط، كان الجغرافيون وواضعو الخرائط والعلماء في مختلف الميادين يتركون آثاراً عدة في توصيفه. ولما كان المتوسط فضاء للجهاد بالنسبة إلى الخلفاء، فقد بقي محطّ اهتمام الإسلام في العصور الوسطى.

في كتابه «بحر الخلفاء، تاريخ المتوسط الإسلامي من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر»، يعود الكاتب إلى مراجع عربية بالغة الأهمية سلّطت الضوء على انخراط المسلمين في المتوسط، فيستلّ استشهادات ذات دلالة من مؤرخين مثل ابن حبيب، وابن عبد الحكم، والإدريسي، والمسعودي، وابن خلدون، واليعقوبي، وابن خرداذبة، والزهري، والبلاذري، وابن الأثير، والمقدسي، وابن النديم، والطبري، والبكري، وابن حيّان القرطبي، وغيرهم الكثير، إذ عمل المترجم بجهد لافت على إعادة هذه الاستشهادات كافة إلى أصلها العربي.

Ad

محطات

قسّم المؤلف كتابه الى جزأين موزّعَين على 12 فصلاً قدّم فيها جردة لمختلف المحطات البحرية الإسلامية في البحر المتوسط. يرى في الجزء الأول أن العرب الأوائل كانوا ينظرون بصورة هامشية أو ثانوية إلى المتوسط، وذلك اعتماداً على ما هو متوافر من الوثائق. على هذا، وجب الانتظار حتى القرن العاشر حتى يتوضح لنا عالم البحر والتجارة البحرية من خلال وثائق الجنيزة. وهنا أسهب المؤلف في الحديث عن المصادر وعن تطور الكتابة التاريخية عند العرب وموقع المتوسط في هذه الآداب، وقدّم جملة من الآراء والمواقف لمختلف المصادر العربية التي تعرضت للبحر بشكل أو بآخر، وقد احتل المسعودي المكانة المهمة ضمن هذا الاستعراض المصادري.

نشاطات بحرية

تجوّل المؤلف بين مغرب الأرض ومشرقها مبرزاً دور كل سلالة في مجال النشاطات البحرية، فأظهر دور الأمويين في الأندلس وركّز على دور أهل المغرب والمشرق في تطوير الصناعات البحرية. ولما بدا المتوسط مجالاً للعسكر وأهل السياسة، فهو أيضاً مجال الفقهاء وأصحاب النوازل. لم يغفل المؤلف كذلك دور أهل الرباطات، خصوصاً في الغرب الإسلامي، في الحرص على بلاد المسلمين والاحتراس من الأعداء الذين قد يهاجمون سواحل المسلمين على حين غرّة.

أما الجزء الثاني، فخصصه المؤلف لاستراتيجيات الخلفاء المتوسطية مُبرزاً الدور الأساسي لمعاوية بن أبي سفيان في بناء الإمبراطورية البحرية. وانطلق التفكير في ذلك منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي رفض السماح بولوج عالم البحر بناء على نصيحة عمرو بن العاص. ترتب عن هذا الموقف إلصاق صورة الخوف من البحر بالعرب. إلا أننا لا نلاحظ مسألة الخوف هذه عندما يقول لنا ابن خلدون «إن المسلمين في عهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه».

استعرض المؤلف مختلف الفترات المزدهرة للبحرية العربية الإسلامية في شرق المتوسط وفي غربه، في ظل الدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية من ناحية، والفاطميين والأندلسيين من ناحية أخرى.

شهادة من مؤرخ غربي

كتاب «بحر الخلفاء» من الأعمال المميّزة التي أنتجتها المدرسة التاريخية الفرنسية، وهو توليف جادّ لتطور النشاط البحري في المتوسط في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة على ذلك الفضاء. إنه شهادة من مؤرخ غربي على أن الإسلام تمكّن فترات طويلة في العصور الوسطى من بسط رايته على الموانئ والجزر والمدن المتوسطية، وأنه رغم انحسار المدّ الإسلامي عن بعض أجزائه في بعض تلك المدة الطويلة، فسرعان ما كانت تعود حركة الفتوحات والجهاد على أيدي المسلمين العرب أو البربر أو أهل الأندلس، لتُعيد تلك الأجزاء ثانيةً تحت حكم الإسلام وسلطانه، حتى أتمَّ المسلمون فتح غربيِّ البحر المتوسط فضلاً عن شرقيِّه.