برحيل الفنانة القديرة مديحة يسري فقدنا إحدى أهم أيقونات السينما المصرية، منذ أن عرفت الأفلام الناطقة في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، فسمراء النيل كما لقبها الجمهور والنقاد كانت من أوائل الفنانات اللاتي قدمن البطولة النسائية في السينما، واستطعن تغيير مفاهيم الشكل للبطلة، فكان سمارها جواز مرورها في أعمالها التي تجاوزت مئتي عمل فني قدمتها على مدار أكثر من 70 عاماً، واصلت فيها رحلة عطاء لم يقطعها سوى المرض في السنوات الأخيرة.

وعلى عكس الكثير من بنات جيلها، استطاعت مديحة يسري أن تتأقلم سريعاً في كل مرحلة عمرية مع الأدوار التي تناسبها، فنراها بدأت الفتاة الجميلة التي يغني لها عبدالوهاب "بلاش تبوسني في عينيا"، لتقدم بعد ذلك مرحلة الأم وأخيراً مرحلة كبيرة العائلة التي قدمتها في عدد من الافلام السينمائية والأعمال الدرامية.

Ad

مديحة يسري، سمراء النيل، التي وقع في غرامها العقاد، وكتب فيها قصائد الشعر حباً وهياماً بالتلميذة الصغيرة التي استضافها في مجلسه، وقررت الابتعاد عنه بشكل مفاجئ لتكتفي بدوره كمرشد وموجه لها بكتابته وبثقافته الغزيرة، وغنى لها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب أغنيته الشهيرة "بلاش تبوسني في عينيا"، ليفتح لها باب الشهرة والمجد في السينما ويساعدها في الوصول للبطولة السينمائية الأولى بفيلمها "أحلام الشباب" مع فريد الاطرش، واختارها المخرج محمد كريم للتمثيل في السينما من وسط صديقاتها، خلال جلوسهن في "جروبي"، بسبب نظرات عينيها.

ما لا يعرفه كثيرون عنها هو أن اسمها الحقيقي هنومة حبيب خليل، أما اسم مديحة يسري فيرجع إلى أول مرة دخلت فيها ستوديو مصر خلال تصوير مشاهدها المحدودة جداً في فيلم "ممنوع من الحب"، حيث ناقشها محمد عبدالوهاب في الاسم الذي سيوضع على تتر الفيلم، وأخبرته بأنها تركت مسؤولية اختيار الاسم الفني للمخرج محمد كريم الذي رشحها للدور، لكن المطرب محمد أمين الذي تزوجته لاحقاً، وكان حاضراً، اقترح ان يكون اسمها مديحة، وأعجب الاستاذ عبدالوهاب الاسم وأضاف إليه يسري... لتكون مديحة يسري النجمة التي ذاع صيتها في أشهر قليلة بأوائل الاربعينيات، وتحولت من مجرد وجه جميل لنجمة تتصدر الافيشات الدعائية للافلام إنتاجاً وتمثيلاً.

شغلت مديحة يسري الجميع بجمالها الأخاذ، فابنة العشرين عاماً التي دخلت ضمن قائمة اجمل 10 فتيات في مصر بعد نشر صورتها في مجلة مصرية، أخفت عن والدها خبر اشتغالها بالتمثيل، واستعانت بخالتها لتوقع مكان والدتها على تعاقدات أعمالها الفنية، حتى اكتشف والدها الأمر بالمصادفة، وعنفها ولم يوافق إلا بعدما وعدته بتقديم أعمال هادفة تحمل رسالة إيجابية.

تميزت أعمال مديحة يسري بالتنوع في الاختيارات ومناقشة القضايا الملحة في المجتمع، فدافعت عن حقوق المرأة في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات عبر عدة أفلام، منها "الافوكاتو مديحة" و"بنات حواء" الذي كان من اوائل الأعمال السينمائية المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة، كما ناقشت قضايا المجتمع في "أولاد الشوارع" مع يوسف وهبي الذي تطرق للمرة الأولى سينمائياً لمشكلة أولاد الشوارع وخطورتهم على المجتمع.

ندمت مديحة يسري على عملين سينمائيين قدمتهما من اكثر 100 فيلم سينمائي على مدار عقود، وهما "رجل لا ينام" الذي وافقت عليه تحت ضغط يوسف وهبي بحكم علاقاتهما معاً، وجسدت خلاله شخصية "العاهرة"، وهي نفس الشخصية التي قدمتها في فيلم "الاعتراف" مع فاتن حمامة، فالجمهور لم يتقبل هذه الأدوار، وأحست بالخجل منها أمام نفسها، وقطعت عهداً بعدها ألا تقدم هذه النوعية من الأدوار مجدداً.

تميزت مديحة بالشجاعة في تقديم دور الأم في فترات مبكرة من عمرها، فلم تخجل من تقديمها وهي لم تصل لعمر الـ30 من عمرها، فظهرت في أفلام عديدة وهي تلعب دور الأم، فتراها في "خطيب ماما" وهي تقدم دور أم نبيلة عبيد، وفي "الخطايا" أم عبد الحليم حافظ وهي لم تصل لعمر الـ43.

شغلت مديحة يسري عضوية مجلس الشورى المصري (الغرفة الثانية للبرلمان) لدورة واحدة، كنائبة معينة من الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهي الدورة التي خلفت فيها الفنانة القديرة أمينة رزق أول فنانة معينة بالبرلمان، وحاولت خلال تلك الفترة أن تمرر مجموعة من التشريعات والقوانين الخاصة بالإنتاج السينمائي والمسرحي وعدد من المشاريع المهمة التي اعدتها مع زملائها، لكنها لم تستطع تمريرها رغم أهمية بعضها، ومنها عودة الدولة للمساهمة في الإنتاج السينمائي وتسهيل تصاريح التصوير في المواقع الأثرية والتاريخية.

رثاء وبكاء

رثى عدد من الفنانين الفنانة القديرة مديحة يسري مستعرضين جوانب إنسانية من شخصيتها، وامتزجت كلمات الرثاء بالبكاء وعبروا عن حزنهم الشديد لرحيلها ومن هؤلاء الفنانين سامح الصريطي ونبيلة عبيد وإلهام شاهين والناقد طارق الشناوي.