كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

Ad

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

أعلنت ساعة جامعة الزقازيق بمحافظة الشرقية (85 كيلومتراً شرق القاهرة) انتهاء اليوم الدراسي. إزاء مبنى كلية الآداب وقف أكرم الطالب الجامعي ينتظر خروج جاره وصديق عمره رامي ليعودا سوياً إلى منزلهما سيراً على الأقدام كعادتهما كل يوم.

ظهر رامي بين الطلبة والطالبات وأشار بيده إلى صديقه أكرم، وما إن وصل إليه حتى قال له بابتسامة:

- إيدك على 500 جنيه!

ورد أكرم في حنق:

وحياة أبوك يا شيخ مش وقت هزار.

وبنفس الابتسامة قال رامي:

- أنا ما بهزرش. فيه رحلة عملاها الكلية للأقصر وأسوان ولازم ندفع الفلوس بكرا.

وقاطعه أكرم في ضيق:

لا يا عم اطلع انت. أنا أبويا لا يمكن يديني 100 جنيه مش 500.

وأضاف أكرم ساخراً:

انت عاوز الراجل يروح فيها؟

وضحك رامي ثم قال بالحاح:

- يا عم حاول معاه. خد اللي تقدر عليه منه والباقي من الست الوالدة. عاوزين نطلع الرحلة دي يا أكرم سوا.

وهز أكرم رأسه في أسى قائلاً:

يا ابني ما تعملش حسابي. أنا عارف أبويا كويس. بخيل وجلدة ويموت على القرش!

وضحك الصديقان وهما يسيران ويغادران مبنى الجامعة في طريقهما إلى منزلهما الذي لا يبعد عن مبنى الجامعة كثيراً.

ضرب وتوبيخ

عندما وصل الطالب الجامعي أكرم إلى منزله قرر أن يحاول محاولة أولى وأخيرة مع والده كما نصحه زميله رامي. وقف الابن إزاء والده قائلاً في استعطاف:

بابا. أنا عاوز 500 جنيه علشان...

لم يتصور الطالب الجامعي أن الجملة التي لم يكملها ستكون سبباً في اندلاع حرائق في البيت لن تنطفئ. انهال عليه والده التاجر الثري بالسباب والتوبيخ. ثم تحول الأب إلى زوجته والدة أكرم ونالها من التوبيخ جانب هي أيضاً بعدما اتهمها التاجر بالفشل في تربية ابنهما الذي زادت مطالبه في الآونة الأخيرة. وانتهى الأمر بترك الأب المنزل غاضباً بينما وقف أكرم ووالدته وعلامات الذهول فوق وجهيهما من ثورة الأب غير المبررة!

لم ينطق أكرم بكلمة. انطلق إلى غرفة نومه والأسى يملأ قلبه. انزوى في أحد أركانها وانسابت دموعه من عينيه للقسوة المفرطة التي يعامله بها والده الذي يملك الملايين من الجنيهات ويبخل عليه بخمسمئة جنيه ليسدد اشتراك رحلة إلى مدينتي الأقصر وأسوان في جنوب مصر التي تنظمها الجامعة.

في لحظة الضعف الشديدة التي كان يمرّ بها أكرم تسلّل الشيطان إلى رأسه. أقنعه بضرورة أخذ حقه بالقوة ما دام سدّ طريق التفاهم بينه وبين والده. وزيّن له الشيطان بأن يستولي على المبلغ الذي يريده من والده. لم يفكر طالب الجامعة كثيراً. اتخذ قراراً حاسماً لا رجعة فيه بضرورة أخذ حقه بيديه!

عقارب الساعة كانت تشير إلى تمام الثامنة مساءً. وقف الطالب الجامعي الشاب أكرم ينتظر صديق عمره رامي إزاء أحد المحلات الشهيرة بمدينة الزقازيق. كان الارتباك واضحاً على تصرفاته، لذلك بمجرد وصول صديقه رامي صاح فيه قائلاً:

- مالك يا أكرم. أنت شكلك مش طبيعي؟

ابتلع أكرم ريقه بصعوبة وتلفت يميناً وشمالاً ثم أمسك بذراع صديقه وابتعد به قليلاً وقال في رعب:

• أنا سرقت أبويا!

وهتف رامي غير مصدق ما سمعه متسائلاً:

- إيه! سرقت مين؟

وطالب أكرم صديقه رامي بالهدوء كي لا يسمعهما أحد. وراح يقصّ عليه قصة الخمسمئة جنيه التي طلبها من والده ورفضه. وأخبره بأنه انتظر حتى موعد عودة والده التاجر الثري من عمله ثم تسلل إلى غرفة نومه واستولى على كل ما في جيب الأب البخيل.

وعاد رامي ليسأل صديقه:

- وسرقت كام؟

وأخرج أكرم من جيبه ما سرقه وقال:

• 1500 جنيه وشوية فكة!

صفق رامي في فرح وقال لصديقه:

- حلو. انت كده تدفع اشتراك الرحلة. وبالباقي نسهر لنا كام يوم عربدة!

وانطلق الصديقان يضحكان بعدما هدأ رامي من روع صديقه أكرم واقنعه بأن ما اقترفه ليس سرقة وإنما استعادة حق!

غرباء

اشترى أكرم حذاء كان يريده منذ فترة. وبحث مع صديقه رامي عن مكان لينفقا فيه بضعة جنيهات أخرى من المبلغ ولكن ضمير أكرم أنبه كثيراً، واتخذ قراراً بضرورة إعادة بقية المبلغ المسروق إلى جيب والده. ورغم محاولات رامي إثناء صديقه عن قراره فإنه رفض الاستماع من صديقه لأي مبررات.

عقارب الساعة أشارت إلى تمام الحادية عشرة مساء. وقتها قرّر الصديقان العودة كل إلى منزله. سارا في الطرقات الخالية يتجاذبان أطراف الحديث وانحرفا إلى شارع جانبي مظلم يختصر المسافة إلى بيتهما، ولكن في منتصف الشارع تسمرت أقدام الشابين إزاء مشهد غريب!

وقعت عيون أكرم ورامي على ثلاثة أشخاص غرباء يوسعون سائق إحدى سيارات الأجرة ضرباً ويستولون على كل ما معه من نقود. كان سائق السيارة يحاول الاستغاثة ولكن الغرباء الثلاثة كانوا لا يتركون له الفرصة وينهالون عليه بالضرب المبرح حتى سقط على الأرض مغشياً عليه.

فكرتان انطلقتا في رأس الصديقين الشابين إزاء هذا المشهد المرعب: الأولى أن يطلقا لساقيهما العنان ويهربا قبل أن يلمحهما اللصوص الثلاثة. والثانية أن يهجما على اللصوص ويحاولان الإمساك بهما!

رامي اقتنع بالفكرة الأولى تماماً، بينما كان أكرم من أنصار الفكرة الثانية. حاول رامي أن يفلت بجلده ولكن صديقه استوقفه وثبته في مكانه وجذبه من ذراعه ودعاه إلى ضرورة مواجهة اللصوص.

«يا أخي واحنا مالنا؟»، قالها رامي بصوت عال. وقبل أن يجيبه أكرم جاء الجواب على لسان أحد اللصوص الثلاثة الذين التفتوا إلى الصديقين وتأكدوا أنهما شاهدا كل شيء. اقترب أحد اللصوص إلى الصديقين ممسكاً سكينه في يده وراح يلوح بها في الهواء بحركات سريعة وقال للشابين بصوت أجش:

** مالك يا واد أنت وهو؟!

كان صوت اللص مرعباً فعلاً. دب الخوف في قلبي الشابين ولم ينطقا بكلمة. ولم تمض ثوانٍ حتى وصل اللصان الآخران وانضما إلى زميلهما الأول وقالوا في نفس واحد:

** لو عاوزين تروحوا لبيوتكم بسلام، انسوا خالص اللي شوفتوه دلوقتي... فاهمين؟!

وأومأ الشابان برأسيهما بعلامة الموافقة واستدارا عائدين من حيث جاءا ولكن أحد اللصوص أمرهما بالتوقف فجأة وقال لزميليه:

** العيال دي ما تطمنش.

ولم يكمل اللص كلامه حتى اندفع زميله الممسك بالسكينة في يديه ووقف في مواجهة الشابين يأمرهما في حدة:

** طلع يا واد انت وهو كل اللي في جيوبكم!

ووقف الشابان أكرم ورامي والرعب يملأ قلبيهما يخرجان كل ما معهما من نقود. وفكر أكرم في عدم إخراج بقية المبلغ الذي استولى عليه من خزانة والده عصر ذلك اليوم. ولكن كانت نظرات اللص الممسك بالسكينة ويشهرها في وجهه ووجه صديقه تدعوه في الوقت نفسه إلى عدم المغامرة... فلو اكتشف اللص الذي يهدده بالسكينة أنه يخفي المبلغ يجهز عليه بالسلاح الذي في يده. قرر أكرم إيثار السلامة وتسليم اللص المبلغ المسروق.

انصاع أكرم إلى صوت العقل وسلّم اللص كل ما معه. ولكن الأخير لم يكتف بما حصل عليه من أموال فراح يأمر الشابين أكرم ورامي بتسليمه ساعاتيهما وحتى الحذاء الجديد الذي اشتراه أكرم. وعندما انتهى اللص من حمل كل ما مع الشابين سلّم المسروقات إلى أحد زملائه ثم اقترب فجأة إلى الشابين ونظر إليهما بتركيز وغرس سكينه في صدر أكرم وبطعنه أخرى مباغتة أصاب رامي أيضا!

وأمر اللص حامل السكينة زميليه بالإسراع من المكان تاركين الشابين أكرم وزميله رامي بعدما سقطا في الشارع سابحين في دمائهما بين الحياة والموت... ولكن رجال الشرطة في سيارة الدورية الراكبة التابعة لمديرية أمن الشرقية والتي كانت تمرّ في المكان مصادفة شاهدوا الحادثة فانطلقوا وراء اللصوص الثلاثة وأمسكوا بهم على بعد خطوات. ونقل أفراد القوة الشابين أكرم ورامي ومعهما سائق سيارة الأجرة، الضحية الأولى للصوص الثلاثة إلى أقرب مستشفي لإنقاذ حياتهم.

الاعتراف

داخل مستشفى الزقازيق العام، أدخل المسعفون المصابين بسرعة إلى غرفة الجراحات، وبعدما نجح الأطباء في إنقاذ حياة الشابين أكرم ورامي انهمرت الدموع من عيني الأول بعدما أفاق من آثار الجراحة التي خضع لها، واعترف لوالده التاجر الثري بأنه سرق منه مبلغ 1500 جنيه، وطلب إليه أن يسامحه على جريمته، مؤكداً أنه تعلم الدرس جيداً الآن ولن يكرر فعتله.

كاد الأب التاجر الثري يفقد عقله، إذ لم يتخيل ولم يخطر بباله أن يسرقه ابنه، ولكنه قبل اعتذار أكرم، خصوصاً بعدما أحسّ بمدى الندم لارتكابه فعلته الحمقاء. كذلك قرر مسامحته بعدما نجا من الموت المحقق بأعجوبة.

أما اللصوص الثلاثة الذين ارتكبوا الجريمة فتبين أنهم من أشهر المجرمين المسجلين خطر سرقة بالإكراه على مستوى مصر كلها. وأفادت التحريات التي أجراها رجال المباحث أن الجناة خرجوا من السجن حديثاً ولعدم تمكنهم من الحصول على المال قرروا مواصلة نشاطهم الإجرامي من خلال سرقة المارة بالإكراه تحت تهديد الأسلحة البيضاء.

ومثُل اللصوص الثلاثة إزاء النيابة، وأيمن أبو سحلي وكيل نيابة الزقازيق. اعترفوا باستيلائهم على أموال سائق التاكسي تحت تهديد السلاح، كذلك أموال الشابين الجامعيين أكرم ورامي ومحاولة قتلهما لاعتقادهم بأن الشابين تعرفا إليهم وحفظا ملامحهم، من ثم خافوا أن يبلغا عنهم ويحددا أوصافهم لرجال الشرطة.

أحيل اللصوص الثلاثة إلى محكمة جنايات الزقازيق التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد عصام الدين وعضوية المستشارين حسن أبو الوفا ومحمد أبو سحلي بأمانة سر سمير أحمد. لم تستغرق محاكمة الجناة سوى ثلاث جلسات استمعت خلالها هيئة المحكمة إلى اعترافات الجناة وأقوال المجني عليهما وشهود الواقعة لتقضي بمعاقبة الجناة بالسجن المشدد سبع سنوات لشروعهم في قتل الشابين أكرم ورامي الطالبين الجامعيين بعد الاستيلاء على ما معهما من أموال بالإكراه.