يُفترض أن تكون إيطاليا بحالة جيدة، فبخلاف بريطانيا تفوق صادراتها إلى العالم بكثير وارداتها، في حين تنفق حكومتها أقل مما تتلقاه من عائدات الضرائب، ورغم ذلك تعاني إيطاليا الركود ويعيش شعبها في حالة ثورة بعد عقدَين ضائعين.السبب الوحيد لمآسي إيطاليا عضويتها في اتحاد عملة تصميمه فاشل يُدعى منطقة اليورو، ففي هذا الاتحاد يعجز الاقتصاد الإيطالي عن التنفس، ورغم ذلك ترفض الحكومات الألمانية المتعاقبة إصلاحه.
في عام 2015 انتخب الشعب اليوناني حكومة تقدمية موالية للوحدة الأوروبية أُعطيت تفويض المطالبة بصفقة جديدة في منطقة اليورو، وفي غضون ستة أشهر عمل الاتحاد الأوروبي ومصرفه المركزي، بتوجيه من الحكومة الألمانية، على سحقنا.طبّقت الحكومة الموالية للمؤسسة الحاكمة في إيطاليا، التي يرأسها الحزب الديمقراطي، السياسات التي طلبها بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي الواحدة تلو الأخرى، وكانت النتيجة تفاقم الركود، لذلك قدّمت الانتخابات الوطنية في شهر مارس الأكثرية البرلمانية المطلقة لحزبين مناهضين للمؤسسة الحاكمة يتشاركان، رغم اختلافاتهما، في تشكيكهما في عضوية منطقة اليورو وعدائيتهما للمهاجرين، فشكّل هذا محصولاً مراً من غياب الفرص وتبدد الأمل.بعد بضعة أسابيع من مشاورات ما بعد الانتخابات غير الرسمية التي نألفها في دول مثل إيطاليا وألمانيا، عقد زعيمَا حركة النجوم الخمسة والرابطة لويجي دي مايو وماتيو سالفيني صفقة لتشكيل حكومة، لكن الرئيس سيرجيو ماتاريلا استخدم للأسف الصلاحيات التي منحه إياها الدستور الإيطالي ليعوق تشكيل تلك الحكومة، وكلّف بدلاً من ذلك تكنوقراطياً، وهو موظف سابق في صندوق النقد الدولي لا يملك أي فرصة للحصول على الثقة بالبرلمان. لو رفض ماتاريلا تبوء سالفيني منصب وزير الداخلية بعدما أغضبه تعهده بطرد 500 ألف مهاجر من إيطاليا، لشعرت أنني مرغم على تأييده، ولكن لم تراود الرئيس مخاوف مماثلة، فلم يحاول ولو لحظة رفض فكرة استعمال دولة أوروبية قواها الأمنية لجمع مئات الآلاف من الناس، واحتجازهم، ووضعهم قسراً في قطارات، وحافلات، وعبارات وإرسالهم إلى مكان مجهول. كلا، قرر ماتاريلا التصادم مع الغالبية الساحقة من المشرعين في البرلمان لسبب مختلف: رفضه مَن اختير لمنصب وزير المالية. لماذا؟ لأن هذا السيد المحترم، مع أنه يملك كل المؤهلات لمنصب مماثل ومع أنه أعلنه أنه سيلتزم بجميع قواعد الاتحاد الأوروبي، عبّر سابقاً عن شكوكه في بنية منطقة اليورو وفضّل خطة للخروج من الاتحاد الأوروبي في حالة نشأت حاجة إليها.وهكذا، فضلاً عن إخفاقه الأخلاقي في التصدي لإعراب الرابطة على نحو فادح عن "بغض البشر"، ارتكب الرئيس هفوة تكتيكية كبيرة: وقع في شرك سالفيني، حيث يشكّل تأليف حكومة "تقنية" أخرى بقيادة موظف سابق في صندوق النقد الدولي موالٍ بالكامل هديةً مذهلة لحزب سالفيني.يرغب سالفيني سراً وبشدة في إجراء انتخابات أخرى، انتخابات لن يخوضها بشخصيته كباغض للبشر وشعبوي مقسّم، بل كمدافع عن الديمقراطية ضد المؤسسة الحاكمة العميقة، وسبق أن حقق تقدماً أخلاقياً بكلماته المؤثرة: "إيطاليا ليست مستعمرة، ونحن لسنا عبيداً للألمان، والفرنسيين، الفارق بين سعرَي العرض والطلب، أو الشؤون المالية".إذا استمد ماتاريلا العزاء من واقع أن الرؤساء الإيطاليين السابقين نجحوا في تأليف حكومات تقنية نفّذت عمل المؤسسة الحاكمة، فلا شك أنه مخطئ، إذ لا يتمتع ماتاريلا، بخلاف مَن سبقوه، بالأكثرية البرلمانية لكي يمرر الموازنة أو يمنح حتى الحكومة التي اختارها الثقة، ونتيجة لذلك يُضطر الرئيس إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة ستعطي، بسبب إخفاقه الأخلاقي وهفوته التكتيكية، أكثرية أكبر بعد للقوى السياسية الإيطالية المعادية للأجانب، التي قد تتحالف أيضاً مع حزب "إيطاليا إلى الأمام" (فورزا إيطاليا) الضعيف بقيادة سيلفيو برلسكوني.ماذا سيفعل عندئذٍ الرئيس ماتاريلا؟* «الغارديان»
مقالات - اضافات
أوروبا تحصد زرعها المر
01-06-2018