Ad

كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم في ما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

داخل محل الجزارة الشهير بمدينة إيتاي البارود التابعة لمحافظة البحيرة (195 كيلومتراً شمال القاهرة). جلس المعلم محمود الجزار الرجل الذي أتمّ عامه الأربعين منذ أيام قليلة ينفث دخان الشيشة في غضب وحنق بعدما هجر الزبائن دكانه كنتيجة طبيعية لارتفاع أسعار اللحوم!

شرد الجزار بذهنه بعيداً. راح يراجع أحواله المادية التي تدهورت بشدة في الآونة الأخيرة حتى تراكمت عليه الديون وحاصرته من كل جانب، وأصبح مطارداً من دائنيه ولا يقوى على سداد ديونه.

لم يكن الدائنون سبب تعاسة الجزار الذي أحس بالفقر لأول مرة في حياته. إنما كان الأشد خطراً عليه زوجته عواطف التي لم تحتمل العثرة التي يمرّ بها زوجها وبدأت تتبرم من حياة الفقر التي تعيشها معه. ومن هنا بدأ النكد المستمر يفيض في بيت المعلم محمود. حتى كره الرجل العودة إلى منزله.

يومها ظلّ المعلم محمود جالساً إزاء باب محل الجزارة ساعات طويلة يبحث عن حل جذري للخروج من أزمته المالية الطاحنة كي يتخلص من النكد في بيته، خصوصاً أن زوجته عواطف بدأت تهدده بطلب الطلاق في كل لحظة اذا لم يجد سبيلاً آخر لإنهاء أزمته المالية في أقرب وقت.

الزبونة الحسناء

فجأة. دخلت زبونة حسناء إلى محل الجزارة.

استيقظ الجزار من شروده بمجرد سماع صوت الزبونة تناديه بدلال. هبّ الرجل واقفاً في مكانه وراح يرحب بالحسناء فائقة الجمال، ويعرض عليها بضاعته كأنها هي طوق النجاة له في ذلك اليوم الذي لم يدخل جيبه فيه مليم واحد!

طلبت الزبونة الحسناء من المعلم محمود ثلاثة كيلوغرامات من اللحوم. واتسعت ابتسامة الجزار على شفتيه. قدّم للزبونة طلبها ومنحته الثمن وبقي المعلمّ محمود يودع زبونته الجديدة بكلمات رقيقة إلى أن غادرت محل الجزارة بعدما وعدته بمعاودة الشراء من دكانه في المرات المقبلة إذا أعجبتها نوعية اللحم هذه المرة.

«سبع أو ضبع»

انتهى يوم العمل في محل الجزارة. عاد المعلم محمود إلى بيته حيث جلست زوجته عواطف كعادتها متجهمة الوجه في صالة الشقة ومتأهبة للشجار. بمجرد رؤيتها زوجها صرخت فيه مستهزئة:

• ها... سبع ولا ضبع يا سيد المعلمين؟

لم يرد المعلم محمود. أخرج من جيبه الجنيهات التي تسلمها من الزبونة الوحيدة التي دخلت محل الجزارة في ذلك اليوم، وألقى بها في غضب لزوجته قائلاً في حنق:

اتفضلي. إيراد النهاردة!

لم تتهلل أسارير الزوجة عواطف كما توقّع زوجها. أمسكت بالورقات المالية القليلة في ضيق وقالت في غضب:

ياما جاب الغراب.

انطلقت الزوجة الحانقة إلى المطبخ لتعد لزوجها الطعام على مضض بينما جلس المعلم محمود يغلي من استهزاء زوجته منه. لم يتناول الجزار طعامه في ذلك اليوم. كان الغضب يسيطر عليه تماماً. الغضب من أحواله المادية المتردية، ومن النكد الذي يعيشه مع زوجته العابسة دوماً منذ أشهر.

انزوى في أحد أركان غرفة نومه، وراح يواصل التفكير في حل جذري يخرجه من أزمته المالية. ولكن مرّت الساعات ولم يعثر الجزار على هذا الحل. استسلم المعلم محمود وغط ّفي نوم عميق من الإرهاق الذهني. بعدما قال في نفسه مواسياً:

ماحدش عارف بكرا حيحصل إيه!

أسبوع تلو الآخر، أصبحت الزبونة الحسناء تتردد باستمرار على محل الجزارة الذي يملكه المعلم محمود. وتطوّر الحديث بينهما، فعرف أن اسمها دلال وأنها أرملة توفي زوجها منذ عام تاركاً لها ما يكفيها لتعيش حياة كريمة.

طوق النجاة

أحس محمود أن الله أرسل له هذه المرأة طوق نجاة، فالجنيهات التي تشتري بها اللحوم منه بالكاد تفتح بيته وتخرس لسان زوجته السليط.

ومن دون أن يدري المعلم محمود وجد نفسه متعلقاً بزبونته الجديدة دلال. ذات يوم راح يمطرها بكلمات الغزل والإعجاب كي لا تفلت منه وتذهب إلى جزار آخر. ولم تبد الزبونة الحسناء اعتراضها على كلمات المعلم محمود الرقيقة. بل على العكس كانت ابتسامتها الصافية تشجعه على الاستمرار في مغازلتها!

زيارة بعد أخرى، سقط المعلم محمود الجزار في غرام زبونته الوحيدة دلال من دون أن يدري!

لم يعد الجزار يهتم بأزمته المالية ولا بالنكد المستمر الذي يعيش فيه مع زوجته... انصبّ اهتمامه على زبونته الحسناء. أصبحت صورتها لا تغادر خياله لا في الليل ولا في النهار.

وعبثاً حاول أن ينقذ نفسه من عذاب الحب الذي أحاط به. حاول جاهداً أن يبعد نفسه عن محبوبته الجديدة دلال ولكن الرجل لم يحتمل كتمان مشاعره. انتهز فرصة وجود الزبونة الجميلة دلال داخل محل الجزارة وباح لها بكل ما يحمله تجاهها من مشاعر.

ارتبكت الزبونة الحسناء. ولكن الجزار الولهان عاجلها وطلب يدها للزواج، فزاد ذلك من ارتباكها وغادرت محل الجزارة بعدما احمر وجهها خجلاً من العرض الذي تلقته منذ لحظات.

لمَ لا؟

في بيتها. جلست دلال تستعيد كلمات الغزل التي أمطرها بها الجزار المعلم محمود والعرض بالزواج الذي عرضه عليها. بينها وبين نفسها قالت الأرملة الشابة:

** وليه لا. راجل غني وأنا لسه صغيرة واستحق حياة أفضل!

لم تكن الأرملة الشابة تعلم أي أمر عن الأزمة المالية التي يتعرّض لها عريسها الجديد. تصوّرت كما الجميع أن الرجل جزار لذا حتماً هو ينعم في الخير وميسور الحال مثل غالبية الجزارين، كما تصورهم أفلام السينما!

لم يخطر ببالها أنه مديون وفقير، وأنه يفكر في أنها هي ستكون بما ورتثه عن زوجها طوق نجاته من أزمته المالية والديون التي تحيط به، وليس العكس.

لذلك حرصت دلال عند لقائها المقبل مع المعلم محمود لإبلاغه بقرارها حول عرض الزواج أن تخبره بطلباتها كافة للموافقة على تلك الزيجة. كان أولها أن يقدم لها مهراً كبيراً وشبكة قيمة. وثانيها أن يكتب لها نصف محل الجزارة لتأمين مستقبلها معه. وتنفيذ هذين الشرطين سيضمن للمعلم محمود الجزار سرية زواجهما.

موافقة على الشروط

استمع المعلم محمود الجزار إلى شروط دلال ووافق بسرعة، فالحب الجديد الذي تسلل إلى قلبه أربك حياته تماماً أكثر ما هي مرتبكة. ولكنه اتخذ قراراً خطيراً ليفوز بمحبوبته ويخرج من ورطة شرطيها. لم يجد الرجل أمامه سوى نصيحة تذكرها عندما قال له أحد أصدقائه ممازحاً على سبيل الدعابة:

يا راجل لحمة ايه اللي بتبيعها. بيع حشيش أحسن!

تجارة المخدرات

عاد المعلم محمود الجزار من ذكرياته وقد قرر أن ينفذ فكرة صديقه القديم، وأن يغير نشاط تجارته من بيع اللحوم إلى بيع المخدرات!

الدخول إلى عالم تجارة المخدرات لم يكن سهلاً. ولكن الجزار محمود وجد الطريق بسرعة وكان مفروشاً بالورود عن طريق صديق له يعمل في هذه التجارة منذ سنوات طويلة.

وبدأ الجزار محمود تجارته الجديدة المحرمة. لم تمض أسابيع قليلة حتى حصد المعلم النقود. بسرعة مذهلة تدفقت الأموال عليه. تحسنت أحواله المادية تماماً، فسدّد ديونه وأسكت لسان زوجته السليط إلى الأبد بأن أغدق عليها بالمال. وأخيراً، بدأ يستعد لإتمام زواجه من محبوبته دلال بعدما اشترى لها شبكة قيمة ومنحها مهراً كبيراً. وفاوضها على نصف محل الجزارة الذي استخدمه كستار لتجارة المخدرات بأن عوضها بمبلغ كبير من المال وضعه باسمها في أحد البنوك.

وبدأت استعدادات زواج المعلم محمود من الأرملة الحسناء دلال. ولكن خبر زواجهما، ورغم احتياطات السرية، طار بسرعة البرق إلى الزوجة الأولى عواطف التي أسقط في يدها. وكادت تسقط مغشياً عليها من فرط الذهول. لم تصدق عواطف الخبر. جلست والدماء تغلي في عروقها تراجع كل ما جرى في الآونة الأخيرة وسألت نفسها كيف حدث ذلك. ومتى؟

صندوقان كبيران

ولم تعثر الزوجة المجروحة كرامتها على إجابة تشفي غليلها. فراحت تبحث من جديد عن سر تغير زوجها محمود الجزار. تنبهت عواطف إلى الأشياء الغامضة التي كان زوجها يحضرها إلى البيت أخيراً ويخفيها باتقان شديد. هبّت الزوجة الثائرة عواطف من مكانها وأسرعت إلى غرفة نومها لتجد أسفل السرير صندوقين كبيرين. فتحتهما لتكتشف سر تدفق الأموال على زوجها حيث عثرت في داخلهما على كمية كبيرة من مخدر الحشيش.

لم تذق الزوجة المخدوعة طعماً للنوم في تلك الليلة. فكرت في مواجهة زوجها بما عرفته عن اتجاره بالمخدرات ولكنها عدلت عن تلك الفكرة فلم يكن يهمها اعترافه بالاتجار بالمخدرات بقدر اعترافه بخيانته لها وبنيته الزواج من الأرملة دلال من دون علمها!

الانتقام

يقولون: الشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة.

عواطف الزوجة المخدوعة قررت الانتقام من زوجها في الحال وقبل أن يتمِّم زواجه على الأرملة الحسناء دلال. قلب الزوجة المحترق بخيانة زوجها الجزار دفعها إلى إرسال بلاغ من مجهول إلى رجال مباحث المخدرات بمديرية أمن البحيرة ترشدهم فيه إلى مكان تخزين المخدرات!

لم يكذب رجال مكافحة المخدرات خبراً. استأذنوا وكيل النائب العام وانطلقوا إلى منزل الجزار مع الخيوط الأولى لفجر اليوم التالي للبلاغ وألقوا القبض على المعلم محمود، ووجدوا لديه 55 كيلوغراماً من مخدر الحشيش أسفل السرير بغرفة نومه، فلم يجد مهرباً من الاعترف بالاتجار وأكّد أنه كان يستعد لتوزيع الحشيش المضبوط على زبائنه من المدمنين.

أحيل المعلم محمود الجزار محبوساً إلى محكمة جنايات دمنهور التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين أحمد عبد الفتاح وعماد عبد الغني. لم يحاول الجزار المتهم الإنكار. اعترف بكل شيء. كان الذهول يعتري ملامحه. جلس داخل قفص الاتهام زائغ العينين يبحث في رأسه عن الشخص الذي وشى به وأفسد عليه زيجته الجديدة من المرأة التي أحبها وضحى من أجلها بكل شيء.

في البداية، اعتقد المعلم محمود أن حبيبته الحسناء دلال هي من وشت به، خصوصاً أنها رفضت زيارته طوال مدة القبض عليه والتحقيق معه وتنصلت من علاقتها به تماماً. ولكن!

في جلسة النطق بالحكم. وبعدما قررت المحكمة معاقبة الجزار بالسجن المشدد 15 عاماً وتغريمه مبلغ 200 ألف جنيه. وبمجرد صدور الحكم عرف المعلم محمود إجابة السؤال الحائر الذي شغل باله طوال مدة التحقيق معه، إذ انطلقت زغرودة داخل قاعة المحكمة، وكانت صاحبتها عواطف زوجة الجزار التي اندفعت إلى زوجها الجالس في قفص الاتهام وقالت له بابتسامة شماتة:

*ألف مبروك يا عريس!

ويرد المعلم محمود في انكسار:

انتِ يا عواطف تعملي فيا كده؟

وترد الزوجة غاضبة:

كنت متوقع جزاء الخيانة تكون إيه يا معلم؟