تستمر متاعب الصحافيين في باكستان بوتيرة ثابتة، وسواء في ظل الحكم المدني أو العسكري يواجه الصحافيون في ذلك البلد تحديات متعددة الأبعاد ومن دون تغيير، وكان كمران خان وهو مقدم برامج مشهور في قناة دنيا التلفزيونية قد شبه في حلقة بثت أخيراً محنة الصحافيين الحالية بالظروف التي كانت سائدة خلال عهد الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال ضياء الحق (1977– 1988)، وأضاف الى وجهة نظره اعتبار العاصمة إسلام أباد «المكان الأكثر خطورة بالنسبة الى عمل الصحافيين في باكستان».وفي حقيقة الأمر يعيش الصحافيون في كابوس مستمر في العاصمة في أعقاب حوادث الاختطاف والتعذيب، كما أن رجال الصحافة، في بعض الحالات، قد استهدفوا بسبب عملهم فقط، ونتيجة لذلك ترددت أنباء عن مغادرة صحافيين لإسلام أباد، ويدعم ذلك هروب الصحافي المعروف طه صديقي الى فرنسا التي اختارها للعيش في المنفى.
وقد تمت استعادة الديمقراطية في باكستان في سنة 2008، وفي سنة 2018 وللمرة الثانية فقط في تاريخ ذلك البلد سيشهد انتقالاً سلمياً للسلطة بين حكومتين مدنيتين، وعلى الرغم من تلك التطورات فإن الأحزاب السياسية السائدة لم تعر أي اهتمام جدي للصحافة، حتى الأحزاب السياسية المؤيدة للديمقراطية فشلت في طرح بديل لصحافة حرة نشطة، وبدلاً من ذلك عمدت تلك الأحزاب الى ترهيب الصحافة ووسائل الإعلام بقدر أكبر.ويضمن الدستور في باكستان ممارسة الصحافيين لأعمالهم باستقلالية تامة، كما أن الصحافة الحرة والمستقلة تحمي قواعد الديمقراطية الأساسية، ولكن لسوء الحظ حتى من يطلق عليهم سمة أبطال الديمقراطية قد نبذوا المؤسسات الصحافية ما لم تخدم مصالحهم الشخصية.وفي مثال لافت تم إغلاق أشهر شبكة تلفزيونية، وهي «جيو تي في» في شهر أبريل الماضي، وطلب منها التوقف عن البث الى حين التوصل إلى اتفاق مع إدارتها حول تفادي الإبلاغ عن قضايا معينة بما في ذلك المسائل المتعلقة بالجيش والقضاء في البلاد.
بعد طلقة التحذير
وبعد طلقة التحذير هذه تشاطر المعلقون الباكستانيون مقالاتهم على «تويتر» بحجة عدم نشر «ذي نيوز» لها (ويملك ذي نيوز وجيو تي نسبة في مجموعة جانغ) وقد زعم مشرف زيدي وهو معلق لدى «ذي نيوز» في مقالة على «تويتر» أن هذه كانت المرة الأولى في عشر سنوات التي رفضت فيها تلك الصحيفة التي تصدر بالإنكليزية نشر مقالة له. ويأتي هذا الضغط على وسائل الإعلام قبل شهور قليلة فقط من الانتخابات العامة في باكستان هذه السنة، ويخشى الصحافيون والسياسيون- وخصوصا من ينتمون الى عصبة باكستان الإسلامية الحاكمة (بي إم إل- ان)- أن يكون الهدف من السيطرة على الصحافة في البلاد هو التحكم في الانتخابات، وفي انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة لم يتمكن مرشح عصبة باكستان الإسلامية من الفوز بمقعد الرئيس على الرغم من حيازة الحزب لمعظم المقاعد فيه، وقد تضافرت كل الأحزاب الأخرى ضد شريف وحزبه ومن المتوقع أن يحدث الشيء نفسه في الانتخابات العامة المقبلة.وتجدر الإشارة إلى أن (بي إم إل– ان) بقيادة رئيس الوزراء السابق نواز شريف هو جزء من المعسكر المناهض للمؤسسة ويواجه انتقادات من جانب كل الأطراف الاخرىن وقال نواز شريف ورئيس الوزراء الحالي شهيد خاكان عباسي إن الانتخابات ستشكل منافسة بينهما وبين «الغرباء»، مما يعني أن المؤسسة العاملة وراء الستار.وفي ضوء تلك الخلفية تتقلص بصورة متزايدة آفاق وسائل الإعلام الحرة، وبحسب بعض الصحافيين فقد تم خنق الصحافة بطريقة متعمدة وجلية.وقد أمرت سلطة تنظيم وسائل الإعلام الإلكتروني في باكستان قناة (ايه ايه جي) التلفزيونية الخاصة بعدم بث برامج من (بي بي سي) وصوت أميركا، و»دوتش فيل»، وهذا الأمر غير ديمقراطي بشكل كبير ويتعارض مع المبادئ الأساسية لحرية الصحافة، وما يبعث على مزيد من القلق هو أن هذا الحظر يتماشى مع النبرة التي تصف وسائل الإعلام الأجنبية في باكستان بأنها ضد الدولة والجيش، وأنها عميلة لدول أجنبية تهدف الى إلحاق الضرر بمصالح البلاد.مقابلة مع نواز شريف
وكانت جريدة «دون» البارزة التي تصدر بالانكليزية في باكستان قد نشرت في الآونة الأخيرة مقابلة أجرتها مع نواز شريف الذي طرح بعض الأسئلة الصعبة التي أغضبت المؤسسة العسكرية الباكستانية بما في ذلك التشكيك في جهود الجيش الباكستاني لمحاربة الإرهاب، وقال شريف في هذه المقابلة إن «المنظمات الإرهابية تنشط في باكستان وحتى مع وصفها بأنها من خارج الدولة هل يتعين علينا أن نسمح لها بعبور الحدود، وأن تقتل 150 شخصاً في مومباي؟ ونتيجة لذلك، وبناء على اقتراح من الجيش الباكستاني تم عقد اجتماع للجنة الأمن القومي في إسلام أباد من أجل مناقشة تلك المقابلة مع نواز شريف، ولم تنته الأمور عند هذا الحد، بدلاً من ذلك يقال ان السلطات الباكستانية منعت توزيع صحيفة «دون» في مناطق نائية من البلاد، وخصوصا في بلوشستان والسند، كما أن مجلس الصحافة في باكستان أبلغ الصحيفة أن نشر المقابلة مع شريف انتهك قانون أصول المهنة.كانت جريمة صحيفة «دون» بسيطة، فقد أجرت ونشرت المقابلة، وعلى الرغم من أنها أقدم صحف باكستان– حيث بدأت من جانب مؤسس باكستان محمد علي جناح في 26 أكتوبر من عام 1941 في دلهي قبل الانفصال– فقد تعرضت لضغوط هائلة في الوقت الراهن بسبب سياستها المستقلة التي تسعى الصحيفة الى الحفاظ عليها في وجه كل العقبات.من جهة أخرى شجبت هيئة «صحافيون بلا حدود الدولية» غير الحكومية خطوة منع توزيع صحيفة «دون»، وقالت إن «من الواضح أن القيادة العسكرية العليا لا تريد السماح بإجراء مناقشة ديمقراطية في الأشهر التي تسبق الانتخابات العامة. ونحن ندعو السلطات الى الكف عن التدخل في انتشار وسائل الإعلام المستقلة واعادة توزيع صحيفة دون في كل أنحاء باكستان».مستقبل الصحافة الحرة
وهكذا فإن مستقبل الصحافة الحرة والمستقلة في باكستان عرضة للخطر، وقد تمت السيطرة في وقت سابق على وسائل الإعلام الإلكترونية، وجاء الآن دور الصحافة المطبوعة لأنها توفر مساحة للاعتراض والانشقاق والتفكير الجوهري والإعلام المستقل.وإضافة إلى الانتخابات العامة المقبلة فإن أحد الأسباب الرئيسة وراء حملات القمع الحالية هو حركة تحفظ باشتون الاجتماعية التي انطلقت في باكستان بقيادة منظور باشتين في أعقاب مقتل شاب من الباشتون يدعى نجيب الله محسود في كراتشي.وتطالب هذه الحركة بحصول الباشتون المضطهدين في المناطق القبلية الفدرالية على حقوقهم الدستورية كما أن الخطابات التي ألقاها باشتين كانت ناقدة للمؤسسة العسكرية الباكستانية، ولهذا السبب عمدت وسائل الإعلام الإلكترونية في باكستان الى حجب خطاباته بصورة تامة، كما أن مهرجانات وخطابات هذه الحركة تنشر في قلة فقط من الصحف الإنكليزية.وعلى أي حال وفي أعقاب التعتيم على وسائل الاعلام الالكترونية في باكستان نشرت كلمات باشتين في وسائل الإعلام الدولية، وحظيت الحركة بتغطية من صحيفة «نيويورك تايمز» و»وول ستريت جورنال» وشبكة «سي ان ان» والعديد من وسائل الإعلام الأخرى، وقد أصبح واضحاً أن الأصوات الناقدة مثل صوت باشتين لا يمكن أن تقمع في عصر الإعلام الرقمي الحالي. *محمد أكبر نوتيزاي – ذي دبلومات