بدأ نظام ما بعد الحرب الذي صاغته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية يتداعى، إذ يبدو أن كل مبادرة من مبادرات السياسة الخارجية خلال السنوات الست عشرة الماضية قد أخفقت.

شكّلت رئاسة ترامب انعكاساً لا محفزاً لتراجع الوضع القائم في السياسة الخارجية، فالجزء الأكبر من العالم اليوم يسير وفق أسس لا دخل لها بمؤسسات نظام ما بعد الحرب الرسمية، وعاداته، وتقاليده، التي باتت جزءاً من الماضي بعدما كانت حققت النجاح سابقاً.

Ad

لنتأمل فكرة أن غرب تركيا يشكّل «أساس جناح حلف شمال الأطلسي (الناتو) الجنوبي الشرقي»، هذه الفكرة التي لا تزال صامدة صمود الجيش الفرنسي «الذي لا يُقهر» عام 1939. طوال أكثر من عقد، عمل الحاكم المستبد إردوغان بدهاء على تقويض تقاليد تركيا التي كانت علمانية عموماً وموالية للغرب، إلا أنه ما كان لينجح في مسعاه هذا من دون دعم الأكثرية الشعبية على الأقل.

حليف بالاسم فقط

على أرض الواقع، تشكّل تركيا العثمانية الجديدة حليف الناتو بالاسم فحسب. بدلاً من ذلك، يمكننا تشبيه تركيا بباكستان، ذلك البلد الذي لا تشير الفوائد التي يقدمها للولايات المتحدة أحياناً إلى أنه حليف أو حتى صديق.

علاوة على ذلك، تبددت تماما الخرافة القديمة عن أن استرضاء نزعة الصين التجارية يشكّل السبيل الوحيد إلى بناء طبقة وسطى صينية ميسورة تتبنى في نهاية المطاف الديمقراطية لتصبح شريك الغرب وتؤلف أمة عالمية نموذجية. الصين بطبيعتها مخادع تجاري دولي مزمن، فقد مثّلت الانتهاكات التجارية دربها إلى الثروة. وتحاول اليوم استغلال أموالها كمصدر قوة لتعيد بناء ما يشبه حيز الازدهار المشترك الذي ساد شرق آسيا الياباني الإمبراطوري العظيم القديم. لكن استرضاء الولايات المتحدة الصين تجارياً خلال العقود الماضية لم يعزز الاستقرار في آسيا تماماً كما أخفق خضوعها لطوكيو في ثلاثينيات القرن الماضي.

لم تعد أيضاً صورة الاتحاد الأوروبي مثالية. لا يُعتبر هذا الاتحاد بالتأكيد مسوّدة لأي حضارة ديمقراطية تعم القارة بأكملها. فالتطبيق القاسي غالباً للاشتراكية الديمقراطية، والنزعة السلمية، والحركة المتعددة الثقافات، تحت إشراف نخب مناهضة للديمقراطية، من الأطلسي إلى حدود روسيا يساهم في نشر الفوضى لا كبحها. كذلك أدت طريقة تفكير الاتحاد الأوروبي المثالية إلى تبديل الديموغرافيا الأوروبية، من سياسة الهجرة، وإنتاج الطاقة، والدفاع. نتيجة لذلك، نشهد اليوم أربعة أنواع متعارضة من الاتحاد الأوروبي: المملكة المتحدة المتمردة التي قررت الانفصال، وكتلة أوروبا الشرقية المهمشة والقلقة بشأن الحدود المفتوحة، والجنوب المتعثر الذي يشعر بالمرارة جراء التقشف المالي وتحوله إلى الخط الأول في مواجهة الهجرة غير المشروعة، وقلب أوروبا الغربية القديم (الذي بات يشكّل رمزاً للهيمنة الألمانية).

ألمانيا نفسها لم تعد ألمانيا الغربية النموذجية «الجديدة» التي برزت في نظام ما بعد الحرب، بل تحوّلت إلى ألمانيا القديمة المألوفة التي تضغط اليوم على جيرانها في مسائل الهجرة غير المشروعة، وعمليات الإنقاذ المالية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والطاقة الروسية، ومساهمات الناتو، تماماً كما سعت سابقاً لتوسيع بروسيا. نتيجة لذلك، تعكس الوحدة الألمانية روح عام 1871 أكثر منه روح 1989، ويمكننا وصف سلوك ألمانيا الجديد بـ»ما بعد الحداثة البروسية»، وهو نوع من التهويل النظيف والصائب سياسياً.

أما بالنسبة إلى الأميركيين، فقد أعادت ألمانيا تعريف علاقتها ما بعد الحرب بالولايات المتحدة، مستندةً إلى ما يشبه الفرضيات الثلاث التالية: 1) لا مجال للتفاوض بشأن حق ألمانيا تجاهل تعهدها بإنفاق 2 في المئة من ناتجها الوطني الإجمالي على الدفاع لكي تضطلع بالتزامات الناتو. 2) لا مجال للتفاوض بشأن فائض الـ65 مليار دولار في تجارتها مع الولايات المتحدة. 3) لا مجال للتفاوض بشأن فائض حسابها الذي سجّل رقماً قياسياً عالمياً مع 280 مليار دولار. ونتيجة هذه الافتراضات، تصر ألمانيا على أن الناتو بشكله التقليدي غير قابل للتغيير وأن نظام التجارة «الحرة» الحالي لا يُنتهك.

أعراف عالم الطاقة

بالإضافة إلى ذلك، انتهت أعراف عالم الطاقة، التي سادت بعد الحرب، منذ عشر سنوات تقريباً. فبحلول السنة المقبلة، ستصبح الولايات المتحدة أكبر منتج للغاز الطبيعي، والنفط، والفحم الحجري في العالم في زمن يشهد تقدماً حقيقياً في كل أنواع المحركات الهجينة. كذلك ما عادت إسرائيل بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط (أو أي دولة أخرى) وغازه الطبيعي. وتحوّل الخليج العربي أيضاً إلى محور الاهتمام الإستراتيجي لإيران وخصومها من دول الخليج التي تبيع نفطها للصين وأوروبا، علماً أنه لا إيران ولا دول الخليج تتمتع بالقوة البحرية الكافية لتحمي أوعية مصالحها في مجال الطاقة.

أما القضية الفلسطينية، التي تعود إلى 75 سنة مضت، فقد تحجّرت. ويشكّل نقل السفارة الأميركية إلى القدس مجرد إقرار رمزي بالواقع القائم منذ عقد تقريباً، علاوة على ذلك، يبدو أنّ الحرب المقبلة في الشرق الأوسط ستكون بين إسرائيل وإيران.

ما عاد انتشار الأسلحة النووية بحد ذاته يتبع صيغة ما بعد الحرب التي نادى فيها الغرب القلق بضرورة الحد من انتشار هذه الأسلحة، فيما طورت الأنظمة المارقة أسلحة نووية بتعاون بسيط من الصينيين أو الروس ليفترض العالم بعد ذلك أن «الأمة التي تصبح نووية تبقى كذلك دوماً».

بدلاً من ذلك، إذا شهدنا جولة جديدة من انتشار الأسلحة النووية، فستكون بين الأمم الديمقراطية (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، مصر، المملكة العربية السعودية) بهدف تخطي فشل الأمم الغربية، والأمم المتحدة، والمنظمات الدولية في منع عناصر غير متزنة من نشر الأسلحة النووية. ستسعى هذه الأمم الديمقراطية إلى ردع أنظمة دعمتها روسيا والصين في الماضي وسلحتاها نووياً. على نحو مماثل، لا يمكننا الجزم بشكل مطلق أن كوريا الشمالية وإيران ستمتلكان دوماً أسلحة نووية، نظراً إلى ضعف اقتصاديهما المعزولين أمام العقوبات والحصار، وعدم شعبيتهما على الصعيد الدولي، والكلفة التي سيتكبدها رعاتهما السريون.

أخيراً، نرى اليوم نهاية الحقيقة القديمة عن أن الولايات المتحدة تتمتع بالقوة النفسية أو الاقتصادية الكافية لتضطلع بسهولة بأعباء القيادة العالمية، متحملةً الكبوات التجارية لأمم رأسمالية ناشئة تتجاهل قواعد التجارة، داعمةً الدفاع القاري لأوروبا الميسورة، مؤيدة تلقائياً المؤسسات الدولية على أساس أنها تلتزم بالليبرالية والتسامح الغربيين، وفاتحةً حدودها للتخفيف من الذنب أو لإعادة ضبط سياسة ديموغرافية مذنبة، حسبما يُفترض.

● فيكتور هانسون- ناشيونال ريفيو