وقفت منصورة الفتاة الجميلة التي لم تكمل عامها الثامن عشر خلف باب حجرتها المتواضعة وقلبها يقفز بين ضلوعها من الفرحة. راحت تسترق السمع لتعرف ما يدور بين والدها وجارهما الشاب عبد الله الذي وصل لتوه إلى منزلها طالباً يدها للزواج. بدأ الحوار الذي دار بين الأب وجاره عبد الله ودياً إلى أن نطق الشاب بما جاء من أجله. تكهرب الجو فجأة، وامتعض وجه الأب وتبدلت ملامحه وسأل ضيفه في حدة:- وهو أنت يا عبد الله حيلتك حاجة علشان تتجوز؟!تصبب الشاب عرقاً. حاول أن يبتلع كلمات الأب القاسية وقال بصوت مخنوق:- يا عمي ربنا يرزقني. المهم أني شاري بنتك منصورة وهاشيلها جوه عيوني. وقاطعه الأب بنفس الحدة قائلاً:- شوف يا عبد الله يا ابني. لحد ما ربنا يرزقك وتقدر تفتح بيت. أنا ما عنديش بنات للجواز. شرفت وآنست!كلمات الأب كانت واضحة. انتهت المقابلة برفض العريس الشاب لفقره وعدم استطاعته تحمل تكاليف الحياة الزوجية.غادر العريس الفقير عبد الله المنزل وقد أحمر وجهه من الخجل، بينما لطمت منصورة داخل حجرتها على خديها بعدما حرمها والدها من الشاب الوحيد الذي أحبته ورفض زواجه منها. كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم في ما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.
رفض
بمجرد انصراف الضيف عبد الله، اقتحم الأب القاسي غرفة ابنته الحزينة منصورة. اقترب إليها وراح يضرب كفاً بكف ويقول في سخرية:- الواد عبد الله جارنا اتجنن يا ولداه. عاوز يتجوزك وهو مش لاقي ياكل. لم ترد منصورة. حاولت إخفاء أحزانها عن والدها ولكن دمعة هربت من عينيها وانسابت على وجنيتها معلنة رفضها قرار الأب بحرمانها من حبيبها. فاكفهر وجه الأب وقال لابنته في غضب: - انتِ كمان اتجننتِ زي الواد عبد الله. انتِ إزاى تفكري في الواد الفقير ده يكون جوزك. انتِ جوهرة يا بنت وتمنك غالي. ولازم اللي ياخدك يدفع دم قلبه. انتِ بنتي اللي طلعت بيها من الدنيا ولازم تتجوزي أحسن جوازة. لازم ترتبطي بواحد غني علشان تعيشي كويس!مرة أخرى لم ترد منصورة... ارتمت بجسدها فوق سريرها باكية ولم تلتفت إلى ما يردده والدها على مسمعيها. كان حزنها كبيراً على ضياع جارها عبد الله الشاب الذي أحبته من كل قلبها.بعد أسبوعين... تكرّر المشهد نفسه ولكن مع اختلاف الضيف!كان الضيف هذه المرة رجلاً في الخمسين من العمر. وصل من إحدى الدول العربية التي يعمل بها منذ 20 عاماً، عارضاً على الأب الزواج من ابنته الجميلة منصورة!نبرة صوت الأب هذه المرة اختلفت تماماً. راح يرحِّب بالضيف بشدة حتى وصل بهما الحوار إلى أهم نقطة... سأل الأب:- وناوي يا استاذ تدفع كام؟!رد الضيف قائلاً:المهر خمسة وعشرين ألف جنيه.تهللت أسارير الأب، ولكنه تظاهر بالغضب وقال في خبث:- يفتح الله يا أستاذ. أنا مهر بنتي لا يمكن يقل عن 50 ألف جنيه!وبدأت جولة مفاوضات بين الأب وضيفه، انتهت باتفاقهما على أن يدفع الضيف مبلغ 30 ألف جنيه. ولكن فات الأب وضيفه أنهما أثناء المفاوضات كانت العروس الصغيرة منصورة تجمع ملابسها في حقيبة صغيرة وتقفز من الشباك لتهرب بعيداً قبل أن يبيعها والدها لرجل عجوز مقابل حفنة جنيهات!جنون الأب
اكتشف الأب هروب ابنته... وضياع الصفقة!جن جنون والد منصورة، وكاد أن يفقد عقله عندما اكتشف أيضاً اختفاء جاره عبدالله من بيته في مدينة المنصورة (125 كيلومتراً شمال القاهرة)، ما يؤكد اتفاق ابنته منصورة مع جارها الشاب على الهرب والزواج بعيداً عن سطوة وتحكمات والدها.أقسم الأب أن يحوِّل حياة ابنته الوحيدة إلى جحيم وأن يستعيدها إلى المنزل من جديد راكعة ذليلة. ولكن قبل أي أمر كان عليه أن يعرف المكان الذي تختبئ فيه ابنته الهاربة منصورة مع حبيبها عبدالله... وقد كان!بدأ الأب رحلة بحث شاقة حتى عرف مكان ابنته الهاربة مصادفة عندما تتبع ذات يوم شقيق عبد الله الأصغر في أحد شوارع مدينة المنصورة من دون أن يلاحظ وجوده حتى وصل إلى شقة بسيطة في أحد الأحياء البعيدة بالمدينة الكبيرة، وعرف أن الزوجين يعيشان فيها.لم يحتمل الأب الانتظار ولم يستطع أن يمسك أعصابه. اقتحم الشقة التي تسكن فيها منصورة مع حبيبها عبد الله. حمل سكيناً محاولاً ذبح ابنته ولكن الجيران الذين سمعوا صرخات استنجادها تدخلوا لإنقاذها. وقدّم عبد الله للأب الثائر عقد زواجه من منصورة وطلب إليه أن يتركهما لحالهما ليربيا ابنهما المنتظر.ولكن الأب الغاضب لم يهتز له جفن ولم يرق قلبه ولم يفرح بأن ابنته حامل بأول أحفاده، وأعلن إزاء الجميع أنه لن يسامح ابنته الهاربة وأنه سيفعل أي أمر ليعيدها بعد تطليقها من عبد الله كي يزوجها من العجوز الثري!في البداية، اعتقد الزوج عبد الله أن والد زوجته يطلق تهديداته ليعبر عن غضبه. ولكن تلك التهديدات أصابت أولاً عبد الله نفسه في مقتل، عندما فوجئ بعد أقل من شهر من تلك الواقعة بمباحث تنفيذ الأحكام تقتحم شقته وتلقي القبض عليه في قضية تحرير شيك من دون رصيد لأحد الأشخاص. وأدرك عبد الله أن والد زوجته كان وراء إرشاد رجال المباحث إلى المكان الذي يختبئ فيه!في السجن
دخل عبد الله السجن...بقيت منصورة التي تنتظر قدوم طفلها في المنزل نفسه الذي شهد أجمل أيام حياتها مع زوجها قبل ذلك. كانت الأيام تمضي ثقيلة وصعبة على الزوجة الحامل التي تعيش بمفردها من دون مورد رزق. ولكن رغم صعوبة الحياة رفضت منصورة أن تركع ورفضت العودة إلى والدها كي لا يجبرها على طلب الطلاق من زوجها السجين، ثم يبيعها للعريس الثري كي يتسلم الثلاثين ألف جنيه التي كان وعده بها.لم تصدق منصورة أن الأيام كفيلة بجعل والدها ينسى تهديداته وانتقامه الأعمى. كانت تعلم جيداً أنه عنيد ولن يتركها في حال سبيلها. ولكنها لم تتوقع أن يكون انتقامه منها سريعاً بمثل هذه الدرجة.ذات يوم فوجئت بما لم يخطر ببالها. فتحت باب شقتها لتجد رجال مباحث مكافحة جرائم الآداب يلقون القبض عليها وعلى ابن صاحب العقار الذي صودف وجوده في المكان، إذ كان جاء لاستلام قيمة إيجار الشقة مع بداية كل شهر! صرخت الزوجة الشابة منصورة في وجه الجميع مؤكدة أنها بريئة... ولم يسمع لها أحد. وفي النيابة عرفت الشابة أن والدها كان وراء الإبلاغ عنها، وأنه اتهمها في محضر رسمي بممارسة الرذيلة! كادت تفقد عقلها. تساءلت بينها وبين نفسها كيف لوالدها أن يتهمها بمثل هذا الاتهام الظالم؟ هل ظل يراقبها طوال الأيام السابقة فعرف بموعد قدوم ابن صاحب العقار لاستلام إيجار الشقة؟ أي شيطان يعشش في عقل والدها؟أسئلة كثيرة لم يكن لها سوى إجابة واحدة وهي أن والد منصورة لن يهدأ له بال حتى يدمر حياتها تماماً!مثُلت الزوجة المتهمة منصورة إزاء محكمة جنايات المنصورة التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار خالد الشباسي، وبأمانة سر مجدي أبو المجد، وفي حضور أمجد زايد رئيس النيابة. صرخ ابن صاحب العقار المتهم الذي ألقي القبض عليه داخل شقة الزوجة منصورة بالخطأ، مؤكداً أنه جاء لاستلام الإيجار بناء على طلب والده، كما في كل شهر.وانتهت أولى جلسات المحاكمة بأن قررت هيئة المحكمة عرض المتهمة والمتهم على الطب الشرعي للكشف عليهما. وبعد أيام جاء تقرير كبير الأطباء الشرعيين ليثبت براءتهما من ارتكاب الرذيلة. وتقضي هيئة المحكمة ببراءة الزوجة الشابة منصورة وابن صاحب العقار. وهنا صرخ والد منصورة بأعلى صوته داخل قاعة المحكمة معترضاً على الحكم. فاستدعاه القاضي وطلب إليه بطاقته الشخصية. وعندما رفض، أمر رئيس المحكمة بحبسه شهرين لعدم استخراجه البطاقة الشخصية.زُجّ الأب في القفص مكان ابنته التي غادرت قاعة المحكمة وصرخات والدها تلاحقها بأنه لن يتركها وأنه سيخرج من الحبس لينتقم منها مهما طالت الأيام!أول الأحفاد
مرت الأيام مسرعةً...خرج الأب من الحبس ليواصل رحلة الانتقام من ابنته التي عصت أوامره، ويكتشف أنها وضعت أول أحفاده منذ أيام. ولكن حتى ولادة حفيده الأول لم تستطع إخماد النيران المشتعلة في قلب الأب. لم ينس أن عناد ابنته أضاع عليه العريس الثري ومبلغ الثلاثين ألف جنيه ثمن الصفقة!قال في نفسه: اذا كانت خطة دخول ابنته السجن فشلت فإنه لن يهدأ له بال حتى يعيد الكرة وينجح هذه المرة!بدأ الأب برسم خطة شيطانية جديدة ليزج بابنته في السجن ووجد في حفيده الرضيع طوق النجاة!زار الأب ابنته متظاهراً بانه سامحها! واوهمها بأنه يريد أن يرى حفيده الأول! ورغم أن منصورة توجست خيفة من تخلي والدها عن عناده القديم فجأة على غير طبيعته العنيدة، فإنها سايرته وتظاهرت هي أيضاً بتصديقه. كانت الزوجة الشابة منصورة تنتظر غدر والدها بين ليلة وضحاها. وما أدخل الشك إلى قلبها تجاهه ليس عناده وتهديداته السابقة ولكن عدم عرضه عليها العودة إلى منزله حتى يخرج زوجها عبد الله من السجن!وتحقق ما توقعته منصورة. غدر بها والدها واختطف رضيعها في غفلة منها وفرّ هارباً. ولكن منصورة أسرعت بالابلاغ عن والدها وتمكن رجال مباحث المنصورة من اللحاق به قبل أن يستقل القطار المتجه إلى القاهرة حيث أراد أن يخبئ حفيده الرضيع لدى أحد اقاربه!أُحيل الأب المتهم إلى محكمة جنايات المنصورة مجدداً بتهمة خطف الطفل الرضيع. ودافع عن نفسه بأنه جد المجني عليه ووجود الطفل معه لا يعني أنه اختطفه... ولكن سجّل المتهم القديم وتهديداته السابقة لابنته اقنعا هيئة المحكمة بجريمة المتهم لتقضي بحبسه ثلاث سنوات... وتخرج منصورة من قاعة المحكمة وعلى وجهها ابتسامة النصر لحصولها على راحة من مطاردات ومكائد والدها طوال فترة سجنه.