هل من عزاء في تاسعة بيتهوفن؟
حين يلمّ بك أسى الجسد، بفعل تراكم السنين، لا تعدو الروح أكثر من مُلحق أو صدى له. وهو دليل على ضعف الكائن، الذي لم يُحط علماً بفلسفة الرواقيين. الروح تحتاج إلى من ينتشلها من أسر الجسد المتعب، لتعود، إذ تتعافى، إليه فترفع من همته على احتمال الأسى. قراءة الفلسفة تفعل ذلك، وكذلك الموسيقى. على أنهما لا يفعلان ذلك للكائن دون أن يكون على قدر من الإرادة لإلقاء نفسه في تيارهما الحار، وللاستسلام الكلي لهما. وواضح أني لم أقترح الشعر، لأن الشعر يُسلم قارئه إلى المتاهة، ولا يفترض فنار هداية بعينه. مع الفلسفة خبرتُ ذلك مع كتابين قديمين: "عزاء الفلسفة" لبويثيوس (كتبه وهو ينتظر تنفيذ حكم الإعدام في السجن عام 527م)، و"تأملات الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس" (أصبح إمبراطوراً عام 160م). ومع الموسيقى أفعله الآن مصغياً إلى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن (1770 - 1827).أخرجت العمل الموسيقي من الرف، ورفعت من قوة الصوت درجة تليق بدرجة الأسى. كنت أتأمل حديقة البيت، التي لم ينقطع المطر عن العبث بها وإذلالها منذ صباح اليوم. الأفق رمادي داكن أحيطه بعين المتسائل. وبين حين وآخر يُربك تساؤلي رعدٌ وبرقٌ، لا عهد لسماء لندن بهما، وعلى هذا القدر من العنف. كنت أشعر أن هذا الرعد والبرق ما هما إلا صدى سماوي لما يحدث للإنسان البائس على الأرض. وصدى سماوي أيضاً لما يعتمل من ألم داخل الجسد الفاني. ألم يكن بيتهوفن كذلك حين وضع سيمفونيته التاسعة عام 1824، أي قبل وفاته بسنوات ثلاث؟
كانت أحلام الثورة الفرنسية قد قُبرت مع ملايين الجثث، وفيينا، مدينة الموسيقى المحببة رُجمت بالمدافع من قبل نابليون، الذي سرعان ما اندحر، وعادت هيمنة السلطات المحافظة، التي كان بيتهوفن، موسيقي "عصر التنوير"، يحلم بنهايتها. وفي داخل جسده تُطفأ شموع العافية واحدة إثر أخرى، ويُطبق عليه الصمم التام. فأي منفذ يمكن أن يُسلم روحه للضوء؟لا شيء غير الموسيقى. ولكن السيمفونية التاسعة تقترح أمراً آخر مُلحاً.تبدأ الحركة الأولى (والسيمفونية في حركات أربع) بلحن مُتخفٍّ، ثم يتضح قليلاً فيبدو بجملتين مركّبتين. لحن يتعالى ببطء، على غير عادة مفتتح الأعمال الأوركسترالية. غامض المقصد، يشي بأمر مُتوقع. حين يُصوّت تشعر أنه معتم، أو يمثل العتمة وما تنطوي عليه من معاني الموت واليأس. ولكن الجملة اللحنية المصاحبة أكثر صحواً، تشف عن إضاءة أمل، تُطل عليك وتغيب. قوتان متصارعتان للظلمة والضوء، ولكن غير متكافئتين. تنموان بعنف، ورغم تشبثات الضوء إلا أن الغلبة تنتهي بسلطة الظلام. ومع ذلك كنت أشعر أني أتنفسهما، وبقدر ما أفعل يتنفس الجسد، وكأنه يلفظ شوائب. وفجأة، ودون فاصل، تبدأ الحركة الثانية المتسارعة، وكأنها راقصة، ولكن على شيء من التوتر العالي. تقحمك معها إلى بشائر، حتى ليشي لحنها أحياناً باللحن المركزي في حركة "نشيد الفرح" الرابعة.مع الحركة الثالثة البطيئة، حركة الاستراحة، أدخل في بحران "النيرفانا"، التي ترتقي بروحي صُعداً الى حيث الكون الرحب. وشأن كل حركة بطيئة في أعماله المتأخرة يتسامى بيتهوفن إلى مدى عجز عنه الموسيقيون. من هناك أُطل على جسدي وأساه، وأحار كيف سيقترح عليّ هذا الموسيقي لحظة الانجاز. فقد خلّفت ورائي مصطرعاً دامياً كانت الغلبة فيه لقوى الظلام، أو تكاد. وها أحدق في الآتي بقلب وجل، والآتي لحنٌ لا يستقر على حال. وكأنه يبحث عن اللحن المناسب الذي يكمن فيه الخلاص. وفجأة تبدأه آلات التشلو (وآلة التشلو تمثل الصوت الرجالي الصدّاح الفتي) بتكرار مُسكر، ثم تأخذ به الأوركسترا، وسرعان ما يدخل الغناء فتتناوب عليه الأصوات الرجالية والنسائية. إنه نشيد الفرح للشاعر شيلر: "يا أيها الفرح ضم شمل النازحين/ ومن فرقتهم صروف الحدثان/ فالناس جميعا اخوان تظللهم بجناحك/ أيها الفرح العلوي/ وليحتضن البشر بعضهم بعضا...".لقد أنجز بيتهوفن طموحات "عصر التنوير" موسيقياً. وأنا في عصر التعتيم أنجزها إصغاءً لموسيقاه.