رياح وأوتاد: شعبية الحكم بين النمو والتدمير
خصصت المذكرة التفسيرية للدستور فصلا مهماً يتحدث ويؤصل لشعبية الحكم حسب تعبيرها، وبينت كيف أرسى الدستور قواعد هذه الشعبية بالنص على المشاركة السياسية وسلطات مجلس الأمة، وحرية الصحافة والتعبير وفقاً للقانون وتكوين جمعيات النفع العام.ولكن للأسف هذا الأصل المهم يتعرض للتهديد منذ فترة عبر قرارات شعبوية مدمرة، يقوم بها بعض الوزراء، ويطالب بها النواب.ولنأخذ مثالاً بسيطاً جدا لعله يساهم في توضيح القصد، فقد تم وضع حجر الأساس لمستشفى الشيخ جابر، رحمه الله، قبل نحو 14 سنة، واليوم تعجز الحكومة عن افتتاحه لعدم وجود الكوادر الفنية لتشغيله، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مستشفى الجهراء، ومركز الشيخ صباح الأحمد في النويصيب، وغيرها من المشاريع العامة، لذلك تفكر وزارة الصحة بنقل أطباء وممرضين وفنيين من الأقسام في المستشفيات الأخرى لتشغيل المستشفيات الجديدة بأي شكل، إلا أن المسوؤلين والأطباء الاستشاريين عارضوا هذا التوجه لأن المستشفيات الحاليّة تعاني نقصاً شديداً وتتراكم فيها الطوابير، ونقل الكوادر منها سيؤدي بالتأكيد الى تأخير العلاج وزيادة التذمر والتحلطم الشعبي.
فلنتأمل كيف أنفقت البلاد المليارات في بناء هذه المستشفيات فرصدت الأموال، وأغدقت على المقاولين، ولجنة المناقصات ما تقصر، وكذلك أنفقت الحكومة أكثر من مليار دينار للعلاج في الخارج استجابة لطلبات النواب، ولكن كل ذلك لم يوقف التذمر ولم يعزز الشعبية الحقيقية التي أرادها الدستور لأن الخدمات تراجعت ولم تلبِّ الطلبات المتزايدة، كما أن هذه المليارات لم تعمل على بناء الإنسان المنتج، فكان هو الغائب الوحيد. والأمر نفسه قد يتكرر في الجامعة الجديدة والمطار الجديد، حتى وصل الأمر إلى تفكير الحكومة في جلب شركات أجنبية لإدارة مستشفى جابر والمطار، مما سيؤدي إلى مزيد من البطالة المقنعة والإنفاق الجاري وشبهات التنفيع، وإلى جلب المزيد من الوافدين واختلال مريع للتركيبة السكانية، والسحب من الاحتياطي وعجز الميزانية والنتيجة الحتمية هي زيادة التذمر وانحسار للشعبية الحقيقية التي يظن أصحاب هذه القرارات الشعبوية أنها تعززها.وقد كان من المفترض أن تعمل الحكومة وبضغط من المجلس على تأهيل الكوادر الفنية لإدارة هذه المرافق فور إقرارها وأثناء بنائها، وهذا يتطلب قرارات جريئة مثل تطويع التعليم لخدمة الوظائف الفنية المطلوبة بدلاً من الكليات السهلة التي تخرج الأعداد الهائلة من الوظائف غير المطلوبة، وكذلك أيضاً إعادة النظر في البعثات سواء للدراسة أو التدريب، وأيضاً حصر الزيادات والكوادر المالية الكبيرة في المهن الضرورية المطلوبة لتشغيل هذه المرافق التي لا تستغني عنها الدولة وتعاني النقص الشديد فيها.ولكن عيب هذه القرارات الضرورية أنها غير شعبوية وتصطدم برغبات معظم أعضاء مجلس الأمة والمنتفعين من الكسالى وغير المنتجين، لأن تقليص الكليات غير المطلوبة في سوق العمل قرار غير شعبوي، وحصر البعثات الدراسية والتدريبية في التخصصات الفنية المطلوبة لإدارة وتشغيل هذه المرافق يؤثر في شعبية النواب، وإقرار الكوادر المجزية للمهن الضرورية فقط التي تحتاجها البلاد لكي يتم الاستغناء عن العمالة الوافدة لا يرضي ناخبيهم، وهكذا تستمر وتزداد الأوضاع الخاطئة التي يعتقد بعض الوزراء والنواب أن إيقافها وتغييرها مكلف شعبياً، ويتبين في النهاية أنها مدمرة للبلد وللمالية العامة، وبالتالي للشعبية الحقيقية وهي شعبية الحكم.آخر الكلام: نسف مجلس الأمة عبر قوانينه الأخيرة الخطة التنموية للدولة الصادرة بقانون أقره مجلس الأمة نفسه، وتبين أن الحكومة لا تملك, خلافاً لكل البرلمانات في العالم، أغلبية للدفاع عن قوانينها وللوقوف ضد القوانين التي تعارض خطتها وبرنامجها رغم كل ما قدمت، والنتيجة كما يبدو هي هزيمة ساحقة للحكومة وشعبوية مؤقتة للأعضاء، لكنها ستدخل البلاد بعد فترة زمنية في اختلالات هائلة في المالية العامة، وطوابير طويلة تنتظر العمل والسكن، ومع تراكمها وشدتها يخشى بالفعل أن تؤثر في شعبية الحكم.