لما كانت الليلة الرابعة والسبعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد والعقل الرشيد، أن مدينة بغداد في قديم الزمان، كان يعيش فيها شاب من أولاد الأعيان، اشتهر بالحسن والإحسان، والوفاء للإخوان وكان مولعاً بالفن والألحان، ويقتني لذلك كثيراً من القيان، ويعقد المجالس للندمان، حيث تحفل الموائد بمختلف الألوان، وتدور الرؤوس إذ تدور الكؤوس ببنت الحان، يطوف بها غلمان كأنهم الولدان في الجنان، عدا الجواري الحسان، وقد تعلق قلبه من بين قيناته المغنيات بجارية كاملة الصفات، مليحة القسمات والبسمات واللفتات والإشارات وبادلته هي الأخرى هواه، فطابت لهما الحياة.

Ad

غدر الزمان

غدر الزمان بذلك الشاب، فضاعت ثروته في الإنفاق بغير حساب، وسرعان ما تفرق عنه الأصحاب، وسدت في وجهه الأبواب، ولم يبق له من دنياه، غير تلك الجارية التي بادلته هواه. وقد عوضهما تبادل الحب والوفاء، وسماع العزف والغناء، عما فقداه من واسع الثراء، وصداقة الأصدقاء، ومجالس الندماء. ولكن الدهر الغشوم أبى إلا أن يمعن في غدره المشؤوم، فلم يمض على ذلك نحو عام، حتى أصيب الشاب بمرض أعجزه عن القيام، ولم يجد ثمن الدواء فضلاً عن الطعام. اقترحت عليه جاريته أن يبيعها كي ينتفع بثمنها، ولم تزل تلح عليه حتى قبل. وباعها لشيخ هاشمي كان جاء من البصرة لشراء بعض الجواري المغنيات، وقد دفع ثمناً لها خمسمئة دينار.

لما قبض الشاب الثمن، أراد الرجوع إلى داره، ولكن قلبه لم يطاوعه، وعز عليه أن يعيش هناك من غير جاريته المحبوبة، وكانت الدموع تنهمر من عينيه حزناً على فراقها، واجتمعت عليه آلام الفراق مع آلام المرض والجوع، فلم يعد يقوى على المشي، فدخل مسجداً وجده على مقربة منه وجلس يبكي نادباً حظه، ثم تمدّد في ركن منعزل بالمسجد، ووضع الكيس الذي به ثمن جاريته تحت رأسه، وما لبث حتى غلبه النوم، ثم استيقظ بعد قليل إذ شعر بيد تجذب الكيس من تحت رأسه. ما إن فتح عينيه حتى شاهد لصاً يحمل الكيس في يده ويحاول الفرار، فتحامل على نفسه وحاول النهوض للحاق به، لكنه وقع على الأرض، إذ كان اللص وضع قيداً في رجليه وهو نائم.

ولم يجد فائدة من الصياح، فأخذ يعالج القيد حتى تخلص منه. ثم غادر المسجد صامتاً حزيناً، ولم يزل يمشي على غير هدى إلى أن وجد نفسه على شاطئ النهر، فرمى بنفسه في الماء معتزماً الانتحار يأساً من الحياة. ولكن بحارة لمحوه، فأخرجوه من الماء، ولما عرفوا قصته أخذتهم الرأفة به، وأخذوا يواسونه ويعزونه. ثم أعطوه ثياباً جديدة، وجمعوا له من بينهم 50 درهماً ليشتري بها ما يحتاج إليه من دواء وطعام.

وقال له رئيسهم: اصبر على ما أصابك يا بني فالله مع الصابرين، وما دمت لا تطيق العيش في دارك وحدك بعد فقد جاريتك، فتعال معي إلى داري لتقيم بها حتى يكتب الله لك الشفاء، ثم أحملك في سفينتي إلى أي مدينة أخرى، لتعيش فيها. شكره الشاب على أريحيته، وتوجه معه إلى داره، حيث وجد كل رعاية وإكرام. ولما تمّ شفاء الشاب، أخذه الشيخ إلى الميناء ليحمله في أي سفينة إلى مدينة واسط حسب رغبته، لينزل عند أقارب لوالده فيها. وفيما هو يتفرج على السفن التي في الميناء، وقعت عيناه على الشيخ الهاشمي الذي اشترى منه جاريته، ووجده يستعد للسفر إلى البصرة في سفينة كبيرة له.

تذكر ما جرى له، وأخذ يبكي وينتحب نادباً حظه، ثم خطرت بباله فكرة استحسنها وقرر تنفيذها. قال لرئيس البحارة: أريد أن أركب في هذه السفينة الذاهبة إلى البصرة، فإن قلبي يحدثني بأن جاريتي فيها. ردّ رئيس البحارة: هذه سفينة خاصة، ولا سبيل إلى تحقيق رغبتك إلا إذا خلعت ثيابك التي ترتديها، ولبست بدلاً منها ثياب الملاحين، ثم آخذك إلى رئيس بحارتها واطلب منه أن يجعلك من ملاحيها. وافق الشاب على ذلك. ولم تمض ساعات حتى كان تسلم عمله الجديد في تلك السفينة. ثم أقلعت مسافرة بمن فيها إلى البصرة.

ولم تزل سفينة الشيخ الهاشمي تجري بركابها في ريح طيبة طول ذلك النهار، ولما أقبل الليل، أمر بإلقاء مارسيها على الشاطئ، ثم دعا جميع بحارتها إلى مائدة أعدها غلمانه وجواريه، فأكلوا جميعاً وشربوا حتى اكتفوا، ثم قال لهم: إن الجارية المغنية التي اشتريتها من بغداد، تماثلت للشفاء من مرضها، وقد أقمت هذه الحفلة ابتهاجاً بذلك، وطلبت إليها أن تغني لنا بقدر استطاعتها، فقبلت بعد إلحاح، على أن تغني من وراء هذه الستارة التي ترونها إلى جانبي.

لما سمع الشاب ذلك، كاد يغمي عليه من شدة التأثر، ولكنه تمالك نفسه وأرهف أذنيه لسماع عزف جاريته وغنائها، وقلبه يخفق شوقاً وحنيناً إليها. وأصلحت هي أوتار عودها، ثم عزفت لحناً حزيناً جعل الحاضرين جميعاً يبكون. وغنت هذين البيتين:

بان الخليط من أحب فأدلجوا

ونأوا بهم عني ولم يتحرجوا

يا ليت شعري هل دروا بمدامعي

وبأن قلبي بعدهم يتأجج؟

ثم غلبها البكاء فألقت العود من يدها وكفت عن الغناء، ووقع الشاب البغدادي مغشياً عليه. عندئذ، أخذ بعض الملاحين في إنعاشه، ولما أفاق كان الشيخ الهاشمي وبقية الحاضرين أفلحوا في محاولاتهم إقناع الجارية بأن تغني لهم لحنا آخر، فغنت تقول:

ظعن الأحبة بكرة وترحلوا

والقلب يتبعهم ولا يتحول

إن ذاب قلبي في الغرام فعذره

إن الحبيب هو الحبيب الأول

طرب الشيخ الهاشمي ومن معه كل الطرب، بينما بكى الشاب البغدادي واضطرب، ثم أغمي عليه من جديد، فأخذ الملاحون ينعشونه وهم من أمره في عجب شديد. وما كاد يفيق من الإغماء، حتى عادت هي إلى العزف والغناء، ثم أنشدت هذه الأبيات:

ووقفت بالأطلال بعد رحيلهم

والقلب خفاق وعيني تدمع

وأقول: يا أطلال أين أحبتي؟

والدار قفر والمنازل بلقع

ولقد صبرت لعل صبري نافع

فإذا التصبر بعدهم لا ينفع

العاشق المفارق

عندما سمع الشاب البغدادي جاريته تغني تلك الأبيات، وقع مغشياً عليه للمرة الثالثة. وحاول الملاحون إنعاشه فلم يستطيعوا وظنوا أنه فارق الحياة. وتكدر الشيخ الهاشمي لذلك وسأل الملاحين: ما بال صاحبكم يغمى عليه كلما سمع الغناء، هل هو عاشق مفارق؟ أجابوا: والله يا مولانا ما لنا علم بحاله، ولم نعرفه إلا عند إقلاع السفينة بنا من بغداد. تعجب من ذلك، وقال لهم: إذ أفاق في هذه المرة، فأسقوه قدحاً أو قدحين من النبيذ، فمن عادة أهل بغداد أن يشربوا على الغناء. وإذا أغمي عليه بعد ذلك، فلا تبقوه في سفينتنا، وأخرجوه منها كي لا ينغص علينا سرورنا وطربنا بعد ذلك. فقالوا: سمعاً وطاعة. ولم يزالوا ينعشون الشاب حتى أفاق من إغمائه، ثم سقوه أقداحاً عدة، وأخبروه بما قال الشيخ الهاشمي صاحب السفينة. فتملكه الفزع والجزع، وقال لهم: ادعو الله أن يثبت قلبي، ويعينني على احتمال همي وكربي.

إصلاح العود

كانت الجارية انتهزت فرصة انشغال القوم بإنعاش الشاب البغدادي، فغادرت مكانها خلف الستارة، وأوت إلى مخدعها في السفينة، وهي لا تدري أن ذلك الشاب صاحبها، فلما علم الشيخ الهاشمي والبحارة بانصرافها، تكدروا غاية الكدر، وتوجهوا إلى مخدعها ووقفوا إزاء الستارة المضروبة عليه يصيحون بها ملتمسين منها أن ترجع إلى المجلس لتزيدهم من عزفها وغنائها. ولم يزالوا يلحون عليها بالرجاء والاستعطاف حتى قبلت. أما صاحبها الشاب البغدادي، فإنه انتهز فرصة انصراف القوم لإحضار جاريته، ونهض فتوجه إلى مكانها خلف الستارة وأمسك عودها وأصلحه بطريقة فنية غريبة كان قد علمها أياها. فلما رجعت وأرادت العزف على العود، فوجئت بإصلاح أوتاره بتلك الطريقة التي لا يعرفها أحد إلا هي وصاحبها الشاب البغدادي. تملكها العجب، وصاحت من وراء الستارة: من الذي أصلح أوتار العود؟ فقال لها الشيخ الهاشمي: أنت التي أصلحته، وما فينا أحد له علم بذلك. اشتد غضبها وصاحت قائلة: والله لا أعزف ولا أغني إلا إذا علمت من أصلح العود.

لما سمع الشيخ الهاشمي كلامها، قال لمن حوله من الحاضرين غاضباً: هل بينكم أحد أمسك عود الجارية؟ فحلفوا جميعاً أنهم لم يمسوه. ولما رأى الشاب البغدادي إصرار الجارية على عدم الغناء حتى تعرف من أصلح عودها، وقف في مكانه بالمجلس، وقال للشيخ الهاشمي: معذرة يا سيدي، أنا الذي أصلحت عود الجارية. وأنا صاحبها الذي بعتها لك في بغداد، ثم لم يتمالك نفسه بعد ذلك، فأخذ في البكاء، إلى أن وقع في إغماء!

وما كادت الجارية تسمع صوت الشاب البغدادي صاحبها الأول حتى خرجت من وراء الستارة، وألقت نفسها عليه وهي تبكي، ولم تزل كذلك إلى أن أغمي عليها هي أيضاً، ووقعت على أرض السفينة إلى جانبه. فتجمع الحاضرون حولهما، وأخذوا في إنعاشهما حتى أفاقا. ثم قال الشيخ الهاشمي للشاب البغدادي: ما الذي جرى لك حتى صرت بهذه الحالة التي أنت عليها؟ فقصّ عليه الشاب قصته من أولها إلى آخرها. لما فرغ من قصته، قال له الشيخ الهاشمي: لا بأس عليك يا ولدي. إني ما اشتريت جاريتك إلا لأسمع غناءها، وقد كبرت سني ولم يرزقني الله بولد، وأنا أشهد الله والحاضرين جميعاً على أني وهبتك جاريتك هذه، وإذا رغبتما في الإقامة معي، فكل ما أملكه رهن بأمركما، وكل ما أطلبه منكما أن تسعداني بعزفكما وغنائكما.

شكره الشاب والجارية وقبلا يديه. كما شكره الحاضرون من الملاحين وغيرهم، ثم أمسكت الجارية عودها، وغنت هذه الأبيات، وهي تبكي من شدة الفرح:

عيروني بأن سكبت دموعي

بعد أن زال باللقاء ولوعي

إنما هذه الدموع بقايا

زفرات حرى مشت في ضلوعي

لا تلوموا على البكاء محبا

ليس يطفي الأشواق غير الدموع

طرب القوم طرباً شديداً، ثم أخذ الشاب العود من يد جاريته فأصلح أوتاره بطريقة غريبة أخرى، وغنى عليه هذه الأبيات:

إن شكوت الغرام فاشك جهارا

وابك ليلا كما تشا ونهارا

ليس ذل الهوى بذل ولكن

هو للمغرمين كان شعارا

فابك يا عين مرة بسرور

مثلما قد بكيت حزنا مرارا

اشتد طرف الحاضرين، ولم يزالوا كذلك حتى صباح اليوم التالي، فأقلعت بهم السفينة، مواصلة سيرها إلى البصرة. وعقد الشيخ الهاشمي قران الشاب البغدادي بالجارية، ثم أمر بالاحتفال بقرانهما في السفينة كل ليلة، إلى أن يصلوا إلى داره في البصرة، فيقيم لذلك احتفالا كبيرا.

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد