جعفر البرمكي والضيف المحتال (22 - 30)

نشر في 07-06-2018
آخر تحديث 07-06-2018 | 00:01
تستكمل شهرزاد حكايات الليالي العربية، وتنتقل في هذا الجزء إلى حكايات الملوك والسلاطين والأمراء، وما يدور في قصورهم، وبين حاشيتهم وجواريهم. تحكي عن كبير البرامكة في عصر الخلفاء العباسيين يحيى بن خالد وبلاط الشعراء، وعن جعفر البرمكي وسعيد بن سالم الباهلي، الذي اشتدت به الحال، وضاق ذرعاً بإلحاح الدائنين وذلك في زمن الخليفة هارون الرشيد. كما نتعرف إلى قصة الخليفة المأمون الذي أراد هدم الأهرامات التي شادها الفراعنة فعثر على كنز يثنيه عن فعلته.
لما كانت الليلة الخامسة والسبعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: يحكى أيها الملك السعيد، أن يحيى بن خالد كبير البرامكة الوزراء في عصر الخلفاء العباسيين، كان مشهوراً بالجود والسخاء ، وأجزال المكافأة والعطاء للشعراء. وكان الناس يقصدونه لذلك من مختلف الأنحاء. فاتفق أن جماعة من أهل خراسان جلسوا يتذاكرون أخبار الكرماء، فلما جاء ذكر يحيى، قال أحدهم: إنه والله لكما قال الشاعر:

ولو لم يكن كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

وافق أكثر الحاضرين على ذلك، وأخذوا يتنافسون في وصف كرمه وسخائه وأريحته، إلى أن قال واحد منهم: إن الحكم الصادق لا يكون إلا عن مشاهدة وعيان، وأنا قد رأيت بنفسي هذا الأمر. وذلك أني سافرت إلى بغداد منذ حين، وفيما أنا بالقرب من قصره هناك، رأيت جماعة من الشعراء يهمون بدخوله، فدفعني الفضول إلى الدخول معهم.

ولما مثلنا بين يديه، استقبلنا مرحباً، وأخذ يستمع في تواضع وحياء إلى القصائد التي مدحوه بها، وكلما انتهى أحدهم من إنشاد قصيدته، أمر له بألف دينار. إلى أن جاء الدور عليّ، فوقعت في حرج شديد، ما عليه من مزيد لأني لست بشاعر، ثم أدركتني رحمة الله، فانحلت عقدة لساني، وقلت له: أصلح الله الأمير، إني رأيت ألا أنظم قصيدتي إلا في قصرك، وبعد رؤيتك. فضحك وأمر بأن تخصص بالقصر غرفة لإقامتي، ورتب بعض المماليك والجواري لخدمتي. وقال لصاحب خزانته: احمل إليه كل يوم ألف دينار.

ثم حدثتني نفسي بأن أهرب بها، فحملتها وغادرت القصر ليلاً، وخشيت أن أبقى في بغداد فينكشف أمري وساقتني المقادير بعد يومين إلى الميناء، فوجدت سفينة تهم بالسفر، فركبتها متنكراً في زي التجار. ولما أقلعت بنا السفينة قمت أتمشى على ظهرها، فإذا بي أجد جارية ومملوكاً ممن كانوا في خدمتي بقصر يحيى في بغداد وحمدت الله على أنهما لم يعرفاني، بعدما غيرت هيئتي ثم جلست على مقربة منهما، وأرهفت أذني لسماع حديثهما، وكانت دهشتي عظيمة حينما سمعتهما يرددان اسمي، ويتمنيان لو قابلاني كي يشكراني. ولم يسعني بعد ذلك إلا أن نهضت من مكاني، وتوجهت إليهما وعرفتهما حقيقة أمري وشأني، فقاما وعانقاني وقبلاني... ثم أخبراني بأن سيدهما لما علم بمغادرتي قصره، أبدى أسفه الشديد لانصرافي، وقال: والله لو أقام في ضيافتي طوال عمره، ما نقصت من راتبه درهماً. ثم أعتقنا جميعاً إكراما لك، وتقديراً لخدمتنا إياك، وأمر لكل منا بألف دينار.

لما سمع الخراسانيون قصة زميلهم مع يحيى بن خالد البرمكي، تعجبوا غاية العجب، وقالوا: حقا لقد صدق الشاعر الذي قال فيه:

سألت الندى: هل أنت حر؟ فقال: لا

ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت: شراء؟ قال: حاش، وإنما

توارثني عن والد بعد والد

الباهلي وجعفر البرمكي

لما كانت الليلة السادسة والسبعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن سعيداً بن سالم الباهلي، تحدث عن مآثر البرامكة قبل نكبتهم في زمن الخليفة هارون الرشيد. فقال: اشتدت بي الحال في سنة من السنين، وضقت ذرعاً بإلحاح الدائنين، فقصدت إلى عبد الله ابن مالك الخزاعي، وصرحت له بما أنا فيه من ضيق الحال، وقلة المال، فقال لي: مالك مخرج من ضائقتك إلا بأن تقصد جعفر البرمكي.

قال سعيد بن سالم الباهلي: لما سمعت هذه المشورة، أخذني الغضب وقلت للخزاعي: الموت أهون عندي من أن أذل كبريائي لأحد البرامكة. ولكنه ما زال يلح عليَّ حتى قبلت مشورته، وخرجت من عنده فتوجهت إلى جعفر في دار الوزارة، ولم يكن في مجلسه في تلك الساعة غير الفضل بين يحيى أخيه. لما قصصت عليهما قصتي، وبثثتهما شكايتي، قال لي جعفر: ساعدك الله بعونه، وأغناك عن خلقه بكرمه ومنه، وأجزل لك من بره وخيره، ما يكفيك سؤال غيره. إنه على ما يشاء قدير، وبعباده لطيف خبير. وقال لي الفضل مثل قوله.

من ثم، انصرفت من عندهما غاضباً، وذهبت إلى صاحبي الخزاعي معاتباً مؤنباً. ثم رجعت إلى داري، وقد ضاق صدري وتبلبلت أفكاري. فما كدت أصل إليها حتى وجدت ببابها قافلة من الجمال والبغال، وبجانبها غلمان وخدم ينزلون عنها الأحمال. ثم أقبل أحدهم حين رآني، وقال لي بعد أن حياني: هذا كتاب إليك يا سيدي. ثم ناولني كتاباً مختوماً ففضضته وتلوته، وإذا هو من جعفر والفضل، وفيه يقولان: لقد أبلغنا أمرك إلى الخليفة، فأمر بأن نحمل إليك من بيت المال ألف ألف درهم، لتؤدي منها دينك، وألف ألف درهم لتصلح بها شأنك وقد أرسلناها إليك ومثلها معها، تقديراً لفضلك والسلام!

المأمون والأهرام

لما كانت الليلة السابعة والسبعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: مما يحكى أيها الملك السعيد، أن الخليفة المأمون لما دخل مصر، أراد هدم الأهرام التي شادها الفراعنة فيها، وأنفق في ذلك أموالاً عظيمة، ولكنه لم يقدر إلا على فتح طاقة صغيرة في الهرم الأكبر منها. ويقال إنه وجد في هذه الطاقة أموالاً بقدر الأموال التي أنفقها في فتحها، لا تنقص عنها ولا تزيد درهما. فتعجب من ذلك، وعدل عن هدمها.

وهذه الأهرام عددها ثلاثة، وهي تعد من عجائب الدنيا، ولا يوجد بناء في العالم يضارع بناءها إحكاماً وإتقاناً وهندسة. وقد جعلت مربعة القاعدة، مثلثة فيما فوقها مع انحدار من أعلاها إلى أسفلها. وكان يقال إنها تحتوي على مقابر لملوك مصر الأولين، وبها مخازن خفية منحوتة في الصخر، بها كثير من الجواهر والأموال والأسلحة والتماثيل والأواني والأدوية والأشربة والأطعمة وغيرها. وقد نقشت على أحدها أخبار الكهنة والسحرة وفنونهم وعلومهم في ألواح بديعة الصنع والزخرفة، وزينت جدرانها من الداخل برسوم وتماثيل لتعليم مختلف المهن والحرف والصناعات والفنون، وجعلت فيها طلاسم كثيرة لحفظها إلى ما شاء الله. وقد قال في وصفها أحد الشعراء:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا ولم

يتغيرا بطوارق الحدثان؟

وقال شاعر آخر في وصفها:

أنظر إلى الهرمين واسمع منهما

ما يرويان عن الزمان الغاير

لو ينطقان لأخبرانا بالذي

فعل الزمان بأول وبآخر

كذلك وصفها شاعر آخر فقال:

خليلي: هل تحت السماء بنية

تضارع في إتقانها هرمي مصر؟

بناء يخاف الدهر منه، وكل ما

على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر!

وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى.

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينا، ويدركها الفناء فتصرع

لما كانت الليلة التاسعة والسبعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة المعتصم بالله خرج يوماً لتفقد الرعية، ومعه وزيره ابن حمدون. ولم يزالا يسيران من مكان إلى مكان، حتى تعبا من طول المشي وشدة الحر، وكانا وصلا إلى زقاق لطيف، في صدره دار حسنة المظهر، شامخة البناء تنبئ عما لأصحابها من سعة الثراء. جلسا تحت ظلة عند بابها ريثما يستريحان.

فيما هما كذلك، خرج من تلك الدار غلامان، كأنهما لفرط ملاحتهما قمران، وسمعهما الخليفة ووزيره وهما يتحدثان، بما يدل على أن سيدهما حزين غضبان، لأنه حتى هذه الساعة ليس عنده أي أحد من الضيوف. قال المعتضد لابن حمدون: يبدو أن سيدهما من الكرماء، فلا بأس من دخولنا لنتناول عنده الغداء. ثم دعا الغلامين وقال لهما: أستأذنا لنا سيدكما في النزول عنده، فنحن تاجران غريبان.

فرح الغلامان بذلك، ودخلا الدار فغابا فيها قليلاً، ثم خرجا وناديا الخليفة والوزير قائلين: أيها التاجران الغريبان، إن سيدنا يرحب بكما ويدعوكما إلى تناول الغداء معه. وما أتمّ الغلامان كلامهما حتى خرج صاحب الدار نفسه لدعوتهما... فإذا هو شاب وسيم، عليه ثوب نيسابوري، ورداء يماني، وفي يده خاتم من الياقوت. وأخذ يبالغ في الترحيب بالملك ووزيره وهو يحسب أنهما تاجران غريبان، قائلاً لهما: والله إن هذا اليوم عندي لأسعد الأيام، وإن دخولكما داري لهو منتهى الإكرام. ثم مضي بهما إلى مجلس في الدار، فاخترقا دهيلزاً طويلاً مزخرف الجدران، أدى بهما إلى بستان فيه من كل فاكهة زوجان، وأطيار تغرد على الأغصان، وماء يجري بميزان، وقد أعد وسطه مجلس نثر فيه الورد والريحان، حول مائدة جمعت من الطعام مختلف الألوان. ومنها من أنواع الشراب، كل ما لذ وطاب.

قال ابن حمدون: لما رأى الخليفة ذلك، أخذه العجب، وبان في وجهه الغضب، ثم جاء الغلمان بأباريق من خالص الذهب، فغسلنا أيدينا، وجلسنا إلى المائدة وصاحب الدار يباسطنا وينادمنا. لما أخذنا من الطعام كفايتنا، وبدأت الكوؤس تلعب بالرؤوس، وانتعشت النفوس، وزال من وجه الخليفة ذلك العبوس، التفت الشاب صاحب الدار إلينا وقال لنا: هل لكما أيها التاجران الكريمان، في سماع الأغاني والألحان؟

فقال الخليفة: هذا غاية المرام، وإنا لنشكرك على هذا الإكرام. ضرب الشاب باب مقصورة عن يمينه بقضيب من الخيزران، ففتح وخرجت إلينا منه 10 من الجواري الحسان، كأنهن الياقوت والمرجان، وعليهن ثياب فاخرة، من أنواع الحرير النادرة، وازدانت كل منهن بحلي لا تقدر بثمن. ثم أخذن في العزف على مختلف الآلآت، بينما خرجت من باب آخر 10 راقصات، فرقصن على النغمات. ثم خرجت بعد ذلك جارية ممشوقة القوام، وجهها كأنه البدر التمام، ونصب لها الغلمان، عرشاً في وسط المكان، فجلست وحيتنا بالنظرات الساحرات، والابتسامات الفاتنات.

ثم أعطوها عوداً فأصلحت منه الأوتار، وعزفت لحناً رائعاً أنسانا كل وقار، ثم أخذت في الغناء بصوت يخجل البلبل والهزار، ولم تزل كذلك حتى سلبت منا الأفكار، ولم نعد ندري هل نحن في الليل أم في النهار!

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

الجود والسخاء وإجزال العطاء للشعراء يقابل بالنكران

المأمون يريد هدم الأهرام التي شادها الفراعنة فيعثر على الكنز

الباهلي يغضب من البرامكة والخليفة يأمر له بألفي دينار
back to top