شعبوية مريضة
فرق بين الشعبية والشعبوية، وإن كان هناك الكثير من التداخل الفكري بين المعنيين، الحكم الشعبي، مبدئياً، هو الحكم الديمقراطي الذي يقوم على دعامة حكم الشعب، وفق قواعد محددة، مثل تداول السلطة والعمل الحزبي والفصل بين السلطات واستقلالها، "الشعبوية، ككلمة حديثة في لغتنا تعني، مثلاً، عند الكاتب والإعلامي فريد زكريا: هي الحركة التي تنظر لنفسها على أنها المتحدث والمعبر عن أوضاع المنسيين العاديين من الشعب، وتحتكر خطاب الوطنية على ذاتها وتتخذ موقفاً عدائياً نحو النخب التقليدية".الرئيس ترامب يمثل صورة جيدة للخطاب الشعبوي، حين ينظر للمصلحة القريبة لوطنه (أميركا أولاً) وللجماعات التي عانت اقتصادياً، ويركن جانباً المصلحة البعيدة للوطن، مثلاً حين رفض اتفاقية باريس لتغير الطقس، ورأى أن الكلام عن الارتفاع الحراري هو كلام فارغ، (بالمناسبة دول الشرق الأوسط هي الأكثر تأثراً بالتسخين الحراري) هو يقرر أولوية المصالح الصناعية للدولة الأميركية، أما مستقبل العالم بتغير الطقس فليذهب للجحيم، أيضاً نشاهد اليوم تنامي الصوت الشعبوي في أوروبا الشرقية والغربية، ونتائج الانتخابات الإيطالية، بما تمثل في أحد وجوهها من خطاب عدائي ضد المهاجرين هو صورة جلية للخطاب الشعبوي. في مثل معظم دولنا العربية البعيدة عن الحكم "الشعبي" الديمقراطي تصبح "الشعبوية" أحياناً هي العوض والبديل عن الديمقراطية الصحيحة، وفي دول النفط الريعية الخليجية تتحقق بصورة أوضح الحالة الشعبوية، فعلى سبيل المثال بالكويت تجلت هذه الممارسات الشعبوية مثلاً في تقرير الكوادر المالية الكبيرة لفئات عريضة من العاملين الحكوميين دون مبرر ومن دون مقابل منتج لتلك الفئات، وهناك الكثير من الممارسات الشعبوية دون حساب جاءت من تنافس محموم على كسب الولاءات السياسية بين الحكومة والمجلس، وأضحت تلك "الشعبوية" في الماضي البعيد والقريب وحتى هذه اللحظة دون تحديد الصفة الغالبة للحكم الريعي المريض، يمكن تسمية هذه الحالة بـ"شعبوية الاسترضاءات السياسية". معظم تلك الممارسات والقوانين أو مشروعاتها تدمر في النهاية المستقبل من أجل لحظة الحاضر.
الزميل أحمد باقر، وهو وزير ونائب سابق، تعرض في مقاله أمس الأول، بعنوان "شعبية الحكم بين النمو والتدمير" للحالة "الشعبوية" الكويتية، ويضرب عدة أمثلة عن التخبط السياسي والمالي للسلطة، من بناء مستشفى جابر والمطار الجديد والجامعة وغيرها كثير "... وكيف أنفقت البلاد المليارات في بناء هذه المستشفيات، فرصدت الأموال، وأغدقت على المقاولين ولجنة المناقصات ما تقصر... وأنفقت الحكومة أكثر من مليار دينار للعلاج في الخارج استجابة لطلبات النواب...".ويمضي أحمد باقر ليقرر في فقرة أخرى "... كان من المفروض تأهيل الكوادر الفنية لإدارة هذه المرافق... وهذا يتطلب (قرارات ل) تطويع التعليم لخدمة الوظائف الفنية المطلوبة..."، أي ربط مخرجات التعليم بحاجات الدولة، ولكن "... عيب هذه القرارات الضرورية أنها غير شعبوية وتصطدم برغبات معظم أعضاء مجلس الأمة والمنتفعين من الكسالى وغير المنتجين، لأن تقليص الكليات غير المطلوبة في سوق العمل قرار غير شعبوي...".في زمن مضى كان يمكن التجرع على مضض فلسفة الاسترضاءات الشعبوية، التي هي بصورة أو بأخرى شكل متعال للرشوة السياسية غير المجرمة، أما الآن، مع وضع الدولة النفطي، وتحسب دخول أكثر من 40 ألف خريج قادمين لسوق العمل الحكومي خلال السنوات القليلة القادمة، فماذا ستصنع السلطة معهم ومع أحلامهم... غير بضاعة "الشعبوية" الاسترضائية التي ستفلس حتماً؟ ماذا يمكن أن توفر لهم الدولة؟!