المستنير

تعلمت الأدب من قليل الأدب فأصبحت أديباً. أيقظني عمق الألم فأصبحت شاعراً. قاطعني الجهلة وكثُر صياحهم فتعلمت الصمت وحسن الاستماع. نفرت من صخب الحياة الحديثة وثقلها فأصبحت ناسكاً. تعلمت الأصالة من كثرة النسخ الكربونية والمقلّدِين فتجلّت فرادتي. أصبحت غريباً بين أترابي وأحبابي فوجدت أُنسي في نوري الداخلي. رحمت الحيوان واحترمت الأرض التي نطؤها فأصبحت إنساناً بحق.

أنا الإنسان المستنير، قدوتي الأرض المعطاءة التي تُثمر على الرغم من بطش الإنسان بها، أرضنا السحرية التي تحول مخلفاتنا أزهاراً جميلة وأشجاراً جليلة، أسعى إلى أن أكون مثلها... مثلي الأعلى زهرة النوير الشجاعة التي تشق طريقها نحو النور رغم طبقات الإسمنت الصماء وقطع البلاط البليدة.

أنا الإنسان المستنير، أيقنت أن وقتي على هذه الأرض محدود، فعملت بعزمٍ واجتهاد. ملأت أيامي بما هو مغذٍ لشغفي، فتساميت فوق التافه من الحديث والخاوي من القول، وارتقيت فوق سهام الحقد والغيرة.

تعلقت بأهدافي فحررت من حولي من عبء مسؤولية إسعادي، ابتعدت قليلاً فعرفت قيمتي وأدركها أحبابي كذلك. وبالتركيز على التطور والنمو، أصبحت حياتي سلاماً؛ فلم يعد لدي الوقت للخلافات والصدام مع الآخرين.

أنا الإنسان المستنير، تعلمت الحضور والتسليم من الطفل، فأصبحت حياتي أكثر سلاسة، رأيت شقاء المقاومة الذي يعيشه الإنسان الحديث، فاخترت الرفق واللين، رأيت أثر كل فعل أقوم به وكل نية أُبطنها على أرض الواقع، فطهّرت قلبي وأحسنت لذاتي وللآخرين، وتقبلت إنسانيتي وسامحت نفسي على هفواتها.

تعلمت الصبر من المتسرع، وتعلمت الحذر والترقب من المندفع، رأيت تقلب الفصول وتغير أحوالها، فأدركت أن لكل شيء ميقاتا دقيقا يحكم تكونه وميلاده ثم ضموره ومماته.

سافرت فوجدت العالم الشاسع بملايينه البشرية وألسنته المتباينة، فأدركت أن الجمال يكمن في التنوع والاختلاف، رفعت رأسي أنظر إلى الكون الشاسع من خلال نافذة السماء، وأيقنت أنني مجرد ذرّة في سديمه اللامتناهي، فألقيت بجميع الصفات والمسميات والألقاب بعيداً واكتفيت بكوني إنساناً. خلعت ردائي البشري فلم يبق شيء سوى الروح.