يعتبر الفنان الكبير الراحل علي المفيدي واحداً من أعمدة الفن والإعلام، الذين أثروا المكتبة الفنية الخليجية والكويتية بكثير من الأعمال الإبداعية المتميزة، والتي تركت بصمات واضحة في مسيرة الحركة الفنية بالكويت خصوصاً، والحركة الفنية الخليجية بصفة عامة، وقدم الفنان القدير على مدى أكثر من أربعة عقود مشواراً فنياً متنوعاً وشاملاً في الإذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما.سيظل المفيدي مدرسة خاصة تنهل منها الأجيال، فكم من نجوم تلألأت في سماء الفن والإعلام بفضل علمه، ومنذ عانقت حنجرته ميكروفون الإذاعة، انطلق منها نحو آفاق التقديم والتمثيل، وكان كل من يعاني خللاً في اللغة العربية يلجأ على الفور إلى «ملك الميكروفون» المفيدي ليشكّل له الكلمات، ويعلمه كيفية نطقها السليم، واستعان به المعهد العالي للفنون المسرحية ليدرّس مواد الإلقاء، واللغة العربية، والإذاعة.قدم شخصيات خالدة، الساحر «شبروح»، و«قحطه»، و«حنظل» في مسلسلات الشاطر حسن، ودرب الزلق، وخالتي قماشة على التوالي، وبرامج إذاعية ذات بصمة، كـ «نجوم القمة»، ونافذة على التاريخ، والكويت كلمة السلام، وأدواراً سجلت في تاريخ الحركة المسرحية عبر أعمال كثيرة بينها «حامي الديار»، و«هالو دوللي»، و«بخور أم جاسم».على مدى أربع حلقات، نسلّط الضوء على سيرة حياته، وبعض المحطات من مشواره الفني الثري.
إن تجربة الفنان الكبير الراحل علي المفيدي تستحق أن تروى وتسجل لأكثر من سبب، بعضها يرتبط بكونه واحداً من الفنانين والرواد الذين وضعوا حجر أساس الفنون الدرامية والإبداعية في الكويت، ومهدوا الطريق للأجيال التالية، إضافة إلى تعدد المجالات الإبداعية التي أبدع وشارك فيها الفنان علي المفيدي، وتركه بصمات واضحة في كل مجال، وأقوى سبب لأهمية تسجيل تجربة على المفيدي يتمثل في النموذج الذي يقدمه بوصفه فناناً شاملاً خاض كل المجالات الفنية، وظل وفياً لفنه حتى آخر أيام عمره.سيرة ذاتية
اسم الفنان علي المفيدي بالكامل هو، علي سليمان علي المفيدي، أبصر النور في عام 1937 في منطقة شرق بالكويت، وعاش طفولة ثرية شهد خلالها أحداثا كثيرة ربما مارست دورا في اتجاهه فيما بعد للفن.وقد نشأ المفيدي لأسرة كويتية متوسطة الحال، ولما بلغ عمره الخامسة درس عند الكتاتيب، لدى المطوعة لحفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة، حيث كانت عادة لدى أهل الكويت، ثم درس عند الملا مرشد، حيث مكث الطفل علي المفيدي قرابة العامين عنده، حفظ خلالها عدداً من سور القرآن الكريم، وقد كانت من عادات الماضي الجميل أن من يختم القرآن الكريم يعمل له (زفّة) عبارة عن موكب احتفالي يُحتفى بصاحبه خاتم القرآن الكريم.وكان الملا مرشد صاحب بصمة تربوية، تمثلت في إنشائه مدرسته في عام 1926، في بيت خاص به، ثم راح يطورها، سواء من خلال المبنى نفسه في منطقة المرقاب خلف مبنى الاتصالات السلكية واللاسلكية (الحالي)، أو من خلال إدخاله مناهج تعليم أخرى غير القراءة والكتابة والقرآن الكريم والخط والحساب، وتعليم اللغة العربية، ومبادئ الأدب العربي، والفقه والتوحيد.أخوال أمه
لم ير المفيدي والده سليمان، لأنه رحل عن الدنيا قبل ولادته بشهر، فاضطرت والدته التي تولت تربيته إلى الانتقال من منطقة شرق إلى القبلة (جِبْلَة) عند أخوالها، بيد أن القدر لم يمهلها كثيراً، وتوفيت وهو لم يتجاوز خمسة أعوام، ليعاني ألم الفقد والحرمان من حنان الأم، ليتولى أخوال أمه تربيته ورعايته. وقد كان الطفل علي المفيدي مغرما بالانطلاق وحب البحر والسباحة في مياهه وقت الظهيرة، وممارسة بعض الألعاب الشعبية التي كان يلعبها أطفال الكويت وقتئذ، وكان له عشق خاص للاستماع إلى المذياع منذ صغره ولوجود مذياع في المنزل. وانتقل المفيدي بعد مرحلة الملا مرشد إلى المدارس النظامية، حيث التحق بالمدرسة المباركية، وكان مشهورا بين أقرانه بالمشاغبة، وحسب ما يقول هو عن نفسه «كنت واحداً من شلة المشاغبين في الصف»، وواصل المفيدي طريقه في مراحل التعليم حتى وصل الى الصف الثاني المتوسط حدثت له ظروف اجتماعية جعلته ينصرف عن التعليم، ويلتحق بمجال العمل، وكان عمره وقتئذ لا يزيد على 16 عاماً، وبعد بحث انتهى به المطاف عند إدارة البريد التي كانت تابعة إلى وكالة البريد البريطانية وعين ساعي بريد، وكان دوره يقتصر على توزيع الخطابات على أصحابها، وبعد أقل من عامين ترقى إلى رئيس سعاة، ولم يمض شهران حتى تم دمج قسمي الفرز والتوزيع بقسم واحد، وأصبح المفيدي رئيسا له، وعندما أنشئ قسم التفتيش أصبح مفتشا على المكاتب والفروع الرئيسية.لكن انشغاله بالوظيفة لم يمنعه من مواصلة دراسته، بإصرار وتحد، فأكمل المفيدي المتوسطة، ثم مرحلة الثانوية العامة، في النظام الدراسي المسائي.كان المفيدي متعلقاً بوالدته رحمها الله، وعندما توفيت حزن كثيراً عليها، ودائماً يردد القول «الجنة تحت أقدام الأمهات».عندما وصل علي المفيدي إلى سن التاسعة عشرة، وبالتحديد في عام 1957، تكشفت موهبته في الفن والتمثيل بالمصادفة، فوقتها كان مساعد البريد البريطاني في طريقه لمغادرة الخليج نهائياً ليتسلم الكويتيون العمل بأنفسهم، وأعدت حفلة تكريم بهذه المناسبة، وفاجأ علي المفيدي الحاضرين بتمثيلية كوميدية قام بتأليفها وإخراجها وتمثيلها أيضاً، ورغم أن معظم الحاضرين كانوا من الإنكليز والأجانب، لا يعرفون اللغة العربية إلا القليل منها، فإنهم كانوا يضحكون من طريقة الأداء والحركة.واللافت هنا أن التمثيلية التي قدمها المفيدي مع زملاء له بالبريد كانت تناقش قضية ارتباط أولياء الأمور بمسؤولي المدرسة، حيث قدم المفيدي فيها شخصية أحد أولياء الأمور الذين لا يتجاوبون مع إدارة المدرسة، ما فجّر الضحك وانتزع الضحكات من المواقف والمفارقات، وهو الأمر الذي يكشف عن نباهة المفيدي ومناقشته لقضية اجتماعية جادة في قالب كوميدي، وهو ما طرحه في أكثر من عمل فني له فيما بعد.بين البريد والإذاعة
وكان المفيدي على يقين أن القدر يخبئ له شيئا غير كونه موظفا بالبريد، وهو ما تحقق، ففي أواخر عام 1959 أعلنت الإذاعة الكويتية حاجتها إلى مقدمي برامج ومذيعين، فسارع بتقديم طلب ليكون مذيعاً، حيث لم ينس عشقة لفن الإذاعة، وحرصه منذ صغره على متابعة الإذاعات العربية بشكل منتظم، فضلا عن إذاعتي «صوت لندن»، و»الشرق الأدنى» التي كانت تبث من قبرص، ولما جاءه الرد من الإذاعة الكويتية تقدم للاختبارات مع مجموعة من المتقدمين الذين أصبحوا نجوما في الإذاعة فيما بعد، ونجح في الاختبارات، وحصل على تدريب استمر أكثر من عام، ليحسن من أدائه الصوتي، وبعدها قبل مذيعا بإذاعة الكويت مع نقل خدماته من البريد، لكن مدير البريد وقتئذ رفض، وظل المفيدي يعمل في البريد والإذاعة حتى عام 1963، وبعد مفاوضات بين مسؤولي الإذاعة والبريد سمحوا له بالعمل في الإذاعة بعد وقت الدوام الرسمي في البريد، وظهر صوت علي المفيدي على الهواء لأول مرة في مارس عام 1963 بعبارة «هنا الكويت».المفيدي ممثلاً
في الإذاعة، بدأ المذيع علي المفيدي يقدم أكثر من برنامج إذاعي، فقدم «ركن المرأة والطفل»، و»ركن الشرطة»، وبرنامج «التثقيف الصحي»، و»ركن البيطرة»، والبرامج الشعبية والغنائية، وكان يضع خفة دمه في الإلقاء والتقديم، فيحيل المادة العلمية الدسمة إلى مادة خفيفة يقبل عليها المستمعون. ولأن بداخله ممثلا كامنا، كان المفيدي يمزج في تلك البرامج بين التقديم والتمثيل، وعندما سمعه المخرجون بالإذاعة أسندوا إليه أدواراً صغيرة باللهجة المحلية، وباللغة العربية الفصحى، وعلى رأس هؤلاء المخرجين المخرج أحمد سالم، الذي أشركه كممثل إذاعي في بعض مسلسلاته.مركز الدراسات المسرحية
وبسبب الطموح الفني وتطوير أدواته التمثيلية التحق علي المفيدي بمركز الدراسات المسرحية فور إعلان إنشائه في عام 1964، على يد الرائد المسرحي المصري زكي طليمات، كأول صرح أكاديمي لتعليم التمثيل وقواعد المسرح، في وقت بدأت الحركة المسرحية الكويتية تشهد نمواً واضحاً بعد تأسيس الفرق المسرحية الأربع: العربي، الشعبي، الخليج العربي، والكويتي، وقد تحول بعد سنتين إلى معهد للدراسات المسرحية.وكان شرط الالتحاق بالمركز اجتياز الاختبارات المقررة، وتقدم في البداية ما يقرب من 130 طالبا، ثم تقلص العدد إلى أن وصل إلى ثمانية أشخاص فقط، وكان الفنان الكبير الراحل زكي طليمات مديراً للمركز، ومثل علي المفيدي أمامه مشهداً من مسرحية «طارق بن زياد»، وأعجب طليمات بأدائه، ووافق على التحاقه بالمعهد، ثم أشركه في بعض أعماله المسرحية التي أخرجها في الكويت، ومنها مسرحية «قيس وليلى»، و»صلاح الدين وبيت المقدس»، على الرغم من أن المفيدي كان في السنة الدراسية الثانية بالمعهد، وخلال فترة الدراسة ظل علي المفيدي يواظب على الاشتراك في التمثيليات الإذاعية، كما شارك في السهرة التلفزيونية «عيادة ومواقف» مع الفنان الكبير الراحل عماد حمدي، من إخراج المخرج الراحل نور الدمرداش.ولم يفوّت المفيدي، أي فرصة، لصقل موهبته الفنية، حيث انتسب إلى قسم التمثيل والإخراج المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، التي عدت حينئذ ثالث دولة عربية تنشئ معهداً متخصصاً بعد مصر والعراق، ليتخرج فيه المفيدي حاصلاً على درجة البكالوريوس عام 1979، وكان حينئذ يتولى عمادة المعهد الراحل سعيد خطاب، وهو أول عميد للمعهد.في إحدى المقابلات، لفت المفيدي إلى استفادته الكبيرة من المعهد، حيث كان يمثل في العديد من الأعمال التاريخية والإسلامية في الإذاعة، وكان يتخللها ما يعرف بالضجيج الذي يؤديه الممثلون، وعندما يصل دوره يكون صوته ضعيفاً، لكن بانتسابه إلى المعهد، تعلم فن الإلقاء، وكيفية استخدام الصوت، فهو الوقود الحقيقي للممثل، وكيفية الاقتصاد بالصوت، وأين يسرف فيه؟، وعملية التنفس في الوقت المحدد.استفاد المفيدي من المعهد القواعد والأصول والنظريات والتدريبات العملية، إضافة إلى المعلومات العامة، وتاريخ المسرح ومدارسه ونظريات الإخراج.المفيدي منارة ثقافية في مهرجان «القرين»
ضمن المنارات الثقافية الكويتية في مهرجان القرين الثقافي الـ16، عقدت منارة الفنان الراحل علي المفيدي في مسرح حمد الرجيب بالمعهد العالي للفنون المسرحية، في 25 أكتوبر 2010، وقدمت فيها الإعلامية القديرة أمل عبدالله، ود. فهد السليم بحثَيهما عن الراحل بإدارة الفنان دخيل الدخيل.تحدثت أمل عبدالله من خلال بحثها المُعنوَن بـ»علي المفيدي... العطاء والحب» قائلة: «قدري أن أكتب عن الصديق والزميل والأخ الفنان الراحل علي المفيدي، زميل رحلة العمر، التقينا في رحاب الفن وعشق الكلمة وسحر ميكروفون الإذاعة والتفاني في حب الوطن ونكران الذات، جولات وصولات في خضم الحركة الفنية، انتصارات وانكسارات، طموح شبابنا الذي ولّى ومحاولة أن نكون، وأن يكون للكويت فنها وفنانوها... طموح أن نشكل علامة في رحلة الحياة، قدري أن أعرفه وأزامله وأصادقه ردحاً طويلاً من زمن الرحلة، أعرفه فناناً حتى النخاع، وإنساناً حتى الثمالة».ثم تناولت طفولته التي بشّرت بميلاد فنان متميز، وسر تألقه من إدارة البريد إلى الإذاعة والمسرح، مروراً بمواهبه وطموحه كسلاح له في التميز الفني والتأليف، ونجاحاته المتميزة مع فرقة مسرح الخليج العربي، وإبداعاته في مسيرته الفنية، ولقبه ملك الميكروفون.أما د. فهد السليم فقد أشار في بحثه «علي المفيدي... شيخ المخرجين وأستاذ الإذاعيين»، إلى تركه بصمة واضحة على الصعيد الأكاديمي في تدريس مادة الإذاعة لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية سنوات طويلة، فكان حلقة الوصل الحقيقية بين الخبرة والقدوة، وبين الشباب الواعد المتطلع إلى الوصول إلى قمة تقترب ولو قليلاً من القمة التي اعتلاها الراحل المفيدي، بالإخلاص والعرق والتعب والجد والكفاح وتطوير الذات في كل مرحلة من مراحل عمره، فكان يبحث دائماً عن بدايات جديدة تعزز له نجوميته وقيمته الفنية. واستهل الفنان القدير عبدالحسين عبدالرضا -رحمه الله– المداخلات: «المفيدي أحد أبرز رواد الحركة الفنية في مجالات الإذاعة والتلفزيون والمسرح، زاملته في أعمال كثيرة وكان ملتزماً ومحباً لعمله وحمامة سلام بين العاملين في الوسط الفني».وقال الفنان القدير سعد الفرج: «لقد كان شريكاً مع مجموعة كبيرة في ولادة أول عمل سينمائي كويتي هو فيلم (بس يل بحر)، وأتذكره في منتصف السبعينيات حينما أنتجنا مسلسل (درب الزلق)، وذلك الدور المتميز (قحطه)، الذي لا يمكن أن نتصور أي ممثل آخر يؤديه بهذه الجودة والإتقان، وكذلك أدواره المتنوعة الرائعة على خشبة المسرح في (حامي الديار) وغيرها، لقد كان خبيراً باللغة العربية وأستاذاً في العمل الإذاعي كممثل ومخرج».وطالب الفنان الكبير محمد المنصور الدولة من خلال وزارة الإعلام بإطلاق اسم الراحل على أحد استوديوهات الإذاعة، تقديراً لمساهمته مع مجموعة من زملائه في تأسيس الإذاعة.