قرابة 80 لوحة انطباعية من "مونيه"، معظمها يُعرض لأول مرة في لندن، تتزاحم في سبع قاعات في متحف National Gallery. المعرض بعنوان "مونيه والعمارة". وانطباعية "مونيه" (1840-1926) في هذه اللوحات مكرسة للمشاهد الطبيعية التي تضم أثراً معمارياً لافتاً للنظر، أو تنصرف لأثر معماري بعينه. ظل "مونيه" قرابة خمسين سنة من حياته الإنتاجية، بدءاً من عام 1860 حتى نحو عام 1910، يستخدم العمارة إلى جانب المنظر الطبيعي وسيلة لبناء لوحته. لوحات "مونيه" مناسبة لفاتحة موسم الصيف اللندني، على الرغم من مناخه المضطرب. لأن شوارع المدينة وحدائقها عامرة بدرجات الخضرة التي لا تُحصى، مطرزة بألوان الأزهار التي لا حدود لعددها. والخضرة والألوان تعكسان بدرجاتها تقلبات الجو، ومن ثم تقلبات الضوء المنعكس عليها. تماماً مثل لوحات "مونيه" للمشاهد الطبيعية. فأنت تدخل المعرض وتخرج بحساسية عين مرهفة إزاء الضوء وانعكاساته على الأشياء والأحياء. لأن هذه الرهافة بشأن الضوء إحدى أكبر مميزات لوحة "مونيه" الانطباعية. والمعرض درس في هذا الحقل: الضوء، وسيادة الزمن على حركة هذا الضوء، وبالتالي على تدرج قوته وضعفه. كان "مونيه" مأخوذاً بهذا الجانب. فكل شيء في لوحته الانطباعية يتحرك: البحر يتحول، الأشرعة تميل، السحب تندفع، النهر يعكس ما يُطل عليه. في عام 1892 تحول من المنظر الطبيعي ومن حزم التبن وأشجار الحور في الريف إلى مبنى الكاتدرائية الثابت، الضخم والدائم في المدينة. "مونيه" يحدد هدفه، وقد درب عينيه على رؤية جديدة ومختلفة، بقوله في واحدة من رسائله:
"سيكون من المثير للاهتمام دراسة الموضوع نفسه في أوقات مختلفة من اليوم لاكتشاف تأثيرات الضوء الذي يغير مظهر وألوان المبنى، من ساعة لساعة وبطريقة بالغة الخفاء". "مونيه" فنان طبيعة دون شك، وليس فنان حجارة وجدران. ولكنه أحال العمارة إلى مختبر دراسة للون والضوء والتحول، وهي عناصر في الطبيعة. إنه في هذا "يبحث عن المستحيل"، على حدّ تعبيره: " يبدو لي أني أحاول جهداً عابثاً، لا ينجز خطوة واحدة للأمام مطلقاً، خصوصاً وأني أكتشف كل يوم أشياء لم أرها في اليوم السابق... باختصار إنني لا أستطيع أن أنجز أي شيء مقبول." "مرهق وما علي إلا أن أتنازل، فإني تحت ضغط كوابيس تمنع عني النوم، فالكاتدرائية تنهار علي، زرقاء أو وردية أو صفراء..".معاناة كهذه تذكرني بمعاناة الرسام الهولندي "ﭭان ﮔوخ". على أن مصدر المعاناة بينهما مختلف في الجوهر. وسوسة "ﮔوخ" تأتيه من ارتباك نفسي داخلي بالغ العنف، ينفرد باللون والحركة على الكانفس، في حين وسوسة "مونيه" مصدرها فني/ بصري، إن صح التعبير، يرتسم على تحولات الضوء وأثرها على الأشياء. كوابيس الأول من الداخل، وكوابيس الثاني من قلق البحث في تحولات الضوء. على أن المعاناتين مسعيان نبيلان للسمو. في صالة العرض الأولى، نقع على أول افتتان "مونيه" بفن العمارة في فرنسا، ثم في هولندا، عند زيارته لها في العامين 71 ـــ 1873: البيوت الملونة، طواحين الهواء والمباني التاريخية. وفي الصالة الثانية يواصل "مونيه" ملاحقة العمارة في "نورماندي" الفرنسية، وفي الثالثة ينحدر إلى فرنسا البحر المتوسط حيث الضوء. الصالتان التاليتان مكرستان إلى المدينة وما تنطوي عليه من معنى الحداثة. فهو يزور لندن. كما يزور مدينته Rouen لهذا الغرض. ولكن في زيارة لاحقة لمدينة لندن، حيث يطلّ من شرفته في فندق "ساﭭويْ" على النهر ومبانيه وجسوره، يدخل "مونيه" مرحلة ما يسميه المعرض "الغموض" الذي يتولد من هذا البحث الدائب عن مؤثرات تحولات الضوء في المناخ المضبب. في 1908 زار "مونيه" مع زوجته "أليس" مدينة "ﭭينيسيا" المائية، وفي شهري الزيارة وضع 37 لوحة، عرضت منها الصالة السابعة والأخيرة 9 لوحات. كان الضوء في هذه المدينة "فريداً" بالنسبة له، بفعل الماء الذي يحتضن كل مبنى، ويُضيء بدوره.
توابل - ثقافات
انطباعية «مونيه» وفن العمارة
10-06-2018