نور الدين محمود زنكي... الملك العادل
وُلِدَ نور الدين محمود في يوم الأحد 17 شوال سنة 511هـ الموافق 1118م بحلب، وهو الابن الثاني لعماد الدين زنكي، وقد نشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، تعلم القرآن والفروسية والرمي، حكم حلب بعد وفاة والده، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي، ورث عن أبيه مشروع محاربة الصليبيين، ولقب بالملك العادل، ومن ألقابه الأخرى ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، كما لقب بنور الدين الشهيد رغم وفاته بسبب المرض. اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وأعطى عرب البادية إقطاعيات لئلا يتعرضوا للحجاج، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية والنورية ودار الحديث، ويعتبر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام ببناء الجامع النوري بالموصل، وبنى الخانات في الطرق.
كان نور الدين محمود وهو في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين، وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم، فوضع أسس سياسة متكاملة تبدأ بتوحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني الاضطرابات وفوضى الحكم في ذلك الوقت، ليضمن أن يحقق الهدف وطرد الصليبيين من المنطقة.استهل حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة (جوسلين الثاني) لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي، وكانت هزيمة الصليبيين في الرّها أشد من هزيمتهم الأولى، وهزم الحملة الصليبية الثانية في سنة 1147م بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، ثم تمكن من ضم دمشق إلى ملكه، ثم أرسل صلاح الدين الأيوبي وأسد الدين شيركوه، إلى مصر، لضمها إليه، وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح، يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدًا للضربة القاضية، وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دويٌّ هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.استطاع نور الدين أن يبني جبهة داخلية قوية متماسكة، ومجتمعاً يسوده قيم العدل والمساواة، ويقوم على أسسٍ من شرع الله، وكانت قضيته الأولى تحرير ديار المسلمين من دنس الفرنجة المحتلين لأراضي المسلمين، وكان يردد على مسامع المحيطين به: "إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج".