ما قــل ودل: حماية العدالة ضمانة أيضاً للمحاكمة السياسية
تناولت في مقالي الأحد الماضي تحت عنوان "موقف سياسي... قاتل الله السياسة" حماية العدالة باعتبارها ضمانة أساسية في كل المحاكمات حتى المحاكمة السياسية.وعقب هذا المقال اتصل بي الأستاذ عياد توفيق مستشار قانوني، وهو أحد قرائي وأصدقائي الأعزاء، وقد أبدى دهشة بالغة من تشبيهي جلسة طرح الثقة بالوزير بالمحاكمة، ومجلس الأمة بالمحكمة في طرح الثقة، متسائلا: أليست هذه المحاكمة سياسية تتحرر من كل القيود التي تتقيد بها المحاكمة أمام القضاء؟قلت له: نعم، هناك فوارق ثلاثة أساسية تفرق بين المحاكمة السياسية والمحاكمة القضائية:
الفارق الأول: أنه يحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة نأياً بهم عن الميل أو الهوى بسبب ميولهم السياسية أو الحزبية، وليس كذلك نواب مجلس الأمة. قضاة طرح الثقة بالوزير، فهم غارقون حتى آذانهم في العمل السياسي.الفارق الثاني: أن شرعية التجريم والعقاب فرضت بنص دستوري ألا يعاقب إنسان إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص على تجريمها. المادة (32) من الدستور.أما المحاكمة السياسية فهي أوسع نطاقاً لتشمل دائرة الأخلاق والقيم الدينية والصفات التي يجب أن يتحلى بها من يتولى سدة الحكم من طهارة ونزاهة وبُعد عن الشبهات.الفارق الثالث: أن هناك ضمانة مهمة في المحاكمة القضائية هي تعدد درجات التقاضي، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي باتّ. مادة (34) من الدستور.أما في المحاكمة السياسية فإن الاستجواب حق لكل نائب قرره له الدستور، وطرح الثقة بالوزير قرار يتخذه مجلس الأمة بأغلبية أعضائه من غير اشتراك الوزراء في القرار. ضمانات المحاكمة السياسية في دستور الكويتولهذا تطلب الدستور في طرح الثقة بالوزير أن يكون ذلك بناء على رغبته أو بطلب موقّع من عشرة أعضاء إثر مناقشة استجواب موجه إليه، كما تطلب الدستور موافقة أغلبية أعضاء مجلس الأمة من غير الوزراء ولا يشترك الوزراء في التصويت، كما حظر الدستور أن يصدر قرار في هذا الطلب قبل سبعة أيام من تقديمه.ضمانات في الدساتير الأخرى وتحفل الدساتير الأخرى بضمانات للمحاكمة السياسية ذات الضمانات المقررة للمحاكمة القضائية، فأوجب دستور الولايات المتحدة الأميركية على أعضاء مجلس الشيوخ عند محاكمتهم رئيس الدولة أن يحلفوا يمينا بأن يحكموا بالعدل، مما دعا أحد أعضاء الكونغرس الأميركي قبل بدء محاكمة "كلينتون" إلى القول تعليقا على ذلك بأن اليمين التي يؤديها أعضاء الكونغرس عند محاكمة الرئيس بأن يحكموا بالعدل هي ضمانة جوهرية وأساسية تحميهم عند إصدار قرارهم من الالتزام الحزبي.بل يحرص دستور الولايات المتحدة الأميركية على أن يوفر لهذه المحاكمة ضمانة قضائية مهمة هي الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم، حيث يصوت مجلس النواب على قرار الاتهام، وتكون المحاكمة أمام مجلس الشيوخ.كما يتولى رئيس مجلس الشيوخ في هذه المحاكمة رئيس المحكمة العليا الفدرالية، الذي يحلف أعضاء المجلس اليمين أمامه بأن يحكموا بالعدل.وإذا كان الدستور الكويتي قد أخذ بنظام المجلس النيابي الواحد، وأنه لذلك ولضرورات اقتضتها طبيعة المحاكمة السياسية، وطبيعة العمل السياسي فيمن يتولون الحكم فيها، لم يفصل بين سلطة التحقيق وسلطة الادعاء وسلطة الحكم. وقد اقتطع من قضاة هذه المحمكة من وجه الاستجواب إلى الوزير، كما اقتطع خُمس أعضاء المجلس يمثلون الادعاء العام في هذه المحاكمة، فإن المسؤولية تصبح أكبر على أعضاء مجلس الأمة بأن يكونوا قد بحثوا ونقبوا وتعقبوا الوقائع والمعلومات التي تكون قد نمت إليهم، ومحّصوها التمحيص الدقيق لكي يبنوا عليها حكمهم، حكما لا يتطرق إليه الشك، ولا تتعلق به الظنون، ولا ينساق إلى الانفعال بالمناقشات التي دارت حول الاستجواب، وإصدار حكم متسرع في هذه القضية دون تروّ أو دراسة متأنية فاحصة لأوجه الاتهام، وهو ما حدا بالمشرع الدستوري إلى اشتراط ألا يتم التصويت على طرح الثقة قبل سبعة أيام من تاريخ تقديمه، باعتبار ذلك الحكم ضمانة مهمة لحماية العدالة.