قد تبدو كتابة الرواية سهلة، حتى يظن بعض القراء بإمكان كتابة رواية في جلسة واحدة، أو ربما أسبوع واحد في أكثر تقدير.لكن في حقيقة ممارسة الكتابة وما ينتج عنها، فإن كتابة رواية مكتملة العناصر الفنية ومشوقة وقادرة على مقاومة الزمن، إنما هو أمر صعب حتى درجة الإعجاز.
إن إحدى مميزات الرواية المبدعة، هي قدرة الكاتب على أن يبقي عمله متوهجاً منذ أول كلمة أو مشهد وحتى آخر كلمة. رواية "راوية الأفلام" للكاتب التشيلي "إيرنان ريبيرا لتيلير-Hernan Rivera Leteraria" ترجمة صالح العلماني، هي رواية صغيرة (109 صفحات) من القطع الصغير، وهي واحدة من الروايات العالمية التي عرفت طريقها للترجمة والوصول إلى القارئ حول العالم.فتاة تروي سيرة حياتها، بصيغة ضمير المتكلم، بطفولتها ولحين بلوغها الثامنة عشرة. فتاة نشأت في منطقة صحراوية "البامبا/ أتاكاما"، في تشيلي، يعمل أهلها في استخراج الملح. والفتاة بسبب فقر أسرتها بوالدها المُقعد وأمها الهاربة، فإنه يتم شراء بطاقة واحدة لفرد من أفراد الأسرة، ومن ثم إرساله إلى السينما لمشاهدة فيلم ما، والعودة لرواية قصة الفيلم بأحداثه على بقية أفراد الأسرة. الطفلة/ ماريا مرغريتا تتفوق على إخوتها الأولاد الأربعة، بعد اجتياز ما يشبه امتحان القدرات، لتحظى بفوز ثمين يأخذها خلفه ليشكّل درب حياتها المتعرج.أي رواية تقوم على حكاية، حكاية صغيرة قد تُروى بسطر أو أسطر، والأمر كذلك في رواية "راوية الأفلام"، فالقصة بسيطة، ويمكن لها أن تحصل في أي من المجتمعات البشرية. وهي بقدر خصوصيتها في مكانها وبيئتها هي متحققة في مجتمعات كثيرة حول العالم.كما أن ما يلفت النظر في أي عمل روائي، هو قدرة السرد على أن يأخذ القارئ إلى عوالمه، وواحدة من الحيل المبدعة في ذلك سهولة اللغة وكثافتها. وقد كان الروائي التشيلي إيرانان ريبيرا المولود عام 1950 متقناً تماماً لهذه الحيلة، فالرواية تبدأ على لسان طفلة، بعين ثاقبة قادرة على سرد عوالم أسرة، وسط محيط فقير، وكيف أن متعة رواية الأفلام قد تفوق متعة مشاهدتها.مهارة الطفلة في رواية الأفلام سرعان ما انتقلت بها من محيط أسرتها إلى محيط الحي، ومن ثم أبعد بقليل: "كانت روايتي للأفلام تخرجهم من ذلك العدم الفظ الذي تعنيه الصحراء، وتنقلهم، ولو لوقت قصير، إلى عوالم بديعة مليئة بالحب والأحلام والمغامرات. وبدلا من أن يروا تلك العوالم معكوسة على شاشة سينما، كان بإمكان كل واحد منهم أن يتخيلها على هواه."راوية الأفلام" تصلح نموذجاً ممتازاً للدرس الروائي، فهي لا تنهض على مصادفة، بل إن المؤلف يحاول جاهداً أن يسبب كل حدث في الرواية، بدءا من اختيار الطفلة ماريا لتكون الراوية، مروراً بالسبب الذي يجعل حدث الرواية الرئيسي مقنعاً، حيث أوضاع منطقة العمال الصحراوية الفقيرة تبدو موائمة لرواية الأفلام السينمائية، عبوراً فوق الأسباب المقنعة التي جعلت الأم تترك زوجها وتهرب بعد إصابته في العمل، وجلوسه مقعداً يعاقر نبيذه الأحمر.وتسبيب الأحداث ينطبق على كل حدث صغير أو كبير، مما يشكل درساً مهماً للعمل الروائي. كما أن دس شيء من الخبرة الإنسانية الكامنة تحت سطح الحدث الإنساني، وعلى لسان طفلة، يأتي في كل مرة مبرراً بسبب مصدر المعرفة.وأخيراً، فإن تطور اللحظة الإنسانية في مسار البشرية، ودخول التلفزيون إلى المنطقة الذي يأتي متناسقاً مع الأحداث العالمية، وهو يحمل من الرمزية الشيء الكثير، يُفسد ويوقف مهنة راوية الأفلام، وهو بدوره ما قضى على أي رواية في أي بيت وفي أي مكان رجلا كان أو امرأة. فتطور التكنولوجيا يأتي على حساب حياة البشر باجتماعهم حول الحكاية وحول المودة وحول الوصل الإنساني.إذا كانت رواية أي فيلم مهمة ممتعة في أي وقت، فإن قراءة هذه الرواية متعة رائقة.
توابل - ثقافات
«راوية الأفلام»
13-06-2018