المغربي وفرخ الرخ (29 - 30)

نشر في 14-06-2018
آخر تحديث 14-06-2018 | 00:00
ما زالت شهرزاد تحكي لشهريار الحكايات التي تأخذ بالألباب، وتطوف بها الوديان والجبال والقرى والبلدان، ومناحي شتى. تواصل في هذه الحلقة حكايات الليالي، لنتعرف إلى قصة المغربي الذي كان يروي العجائب عما شاهده خلال أسفاره ورحلاته. ومن المغربي إلى قصة الموصلي والغلام أسود الذي يقود حماراً أبيض، قد ركبت فوقه جارية ترتدي ملابس فاخرة وقع في غرامها وأنشد فيها شعراً.
لما كانت الليلة السابعة والتسعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: هل سمعت بحكاية المغربي وفرخ الرخ؟ أجابها: لم أسمع بها، فكيف كان ذلك؟ فقالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن رجلاً من أهل المغرب اسمه عبد الرحمن، اشتهر بالسياحة في مختلف البلدان. وكان يروي عجائب الحكايات، عما شاهده خلال الأسفار والرحلات، ومن ذلك أنه قال: خرجت مرة في بعض الأسفار، ولم أزل أقطع الوهاد والقفار، وأنتقل من بحار إلى بحار، وأتخلص من أخطار لأقع في أخطار، إلى أن ألقتني الأقدار، في جزيرة نائية عن العمار، ليس فيها آثار لديار ولا نافخ نار. ولكنها كانت حافلة بالأشجار ذات الثمار، وبها أجناس كثيرة من الأطيار. فأقمت بها وحدي عدة أشهر، وأنا أقتات بالثمار ولحم الطيور. وفيما أنا جالس على شاطئ البحر هناك، أفكر في صيد بعض الأسماك، لمحت سفينة عابرة من بعيد، فتملكني فرح ما عليه من مزيد. وخلعت ثوبي وأخذت ألوح به في الهواء، واتضرع إلى الله بالدعاء، إلى أن لمحني بعض من في السفينة، فأقبلوا نحوي وهم في دهشة عظيمة. ولما وصلوا إلى مكاني، وجدت فيهم من يعرف لساني، فشرحت له حالي وشأني. فأخبروا به بقية الركاب، فأخذوني معهم مظهرين البشر والترحاب، وصرت لهم من جملة الأصحاب.

تابع عبد الرحمن المغربي: ثم سارت السفينة بنا مدة من الزمان، وحسبت أني صرت في أمان، وعما قريب أرجع إلى الأوطان، وأنعم بقرب الأهل والخلان، ولكن البحر ما لبث أن هاج، وارتفعت الأمواج، واستمرت العواصف تلعب بالسفينة المسكينة، ونحن ندعو الله بقلوب حزينة، إلى أن قذفتها الأمواج إلى جزيرة كبيرة، فصعدنا إليها، بعدما ربطنا السفينة إلى الشاطئ، وحمدنا الله على سلامتنا.

وكان صعودنا إلى تلك الجزيرة عند الفجر، فلما طلعت الشمس أخذنا بعض الفؤوس والحبال، لنقطع بعض غصون الأشجار ونجمعها كي نشعلها لطهو ما تيسر من الطعام، ولنتدفأ عليها من البرد الشديد الذي ينخر في العظام. ولم نزل نتحول في أنحاء الجزيرة، ونتفرج على ما فيها من عجائب كثيرة، إلى أن وصلنا إلى قبة عظيمة بيضاء، فأخذنا ندور حولها، باحثين عن بابها، ولكننا لم نجد لها أي باب! ثم أدركنا أخيراً أنها بيضة من بيض طائر الرخ العظيم الذي يحمل في مخالبه فيلين عظيمين. وهذا الطائر تضع أنثاه بيضة واحدة كل سنة، ولا تعود إليها إلا حينما تفقس لتربي فرخها وتتعهده إلى أن يتعلم الطيرانِ، ويصبح قادراً على اصطياد الأفيال والأسود وغيرها...

ولما كنا نعرف أن لحمه وريشه فيه منافع عظيمة، أخذنا في كسر قشرة البيضة بالفؤوس التي معنا، واستطعنا كسرها بعد تعب شديد لمدة ساعات. ولم يكن الفرخ الذي في داخلها قد تمت خلقته، فاستطعنا أن نقطع من لحمه قدر قنطارين أو ثلاثة قناطر، كما قطعنا بعض الريش الصغير الذي بدأ ينبت في جناحه، لنعمل من قصباته ساريات للسفن، ومن زغبه وسائد للنوم والجلوس عليها. وحملنا ذلك كله إلى السفينة، ووضعناه فيها. ولما أردنا رفع مراسيها وفك حبالها المربوطة بجذع الشجرة الملقى على الشاطئ، إذ بهذا الجذع قطعة من قصبة كانت في جناح لطائر من طيور الرخ، فتعجبنا من ذلك غاية العجب. ونقلنا هذه القطعة أيضاً إلى السفينة، فجرت بنا في ريح طيبة بقية النهار وطول الليل.

وما كادت تطلع الشمس في اليوم التالي، حتى أظلم الجو فجأة، ثم لمحنا سحابة عظيمة، وكلما اقتربت منا اشتد الهواء ولعب بالأمواج فلعبت بسفينتنا، إلى أن تكشفت لنا تلك السحابة عن طائر الرخ العظيم، وقد حلق فوقنا بجناحيه العظيمين، وفي مخالبه صخرة عظيمة قدر الفيل يريد أن يلقيها على سفينتنا، انتقاماً منا لكسر بيضته وتقطيع فرخه. سلمنا أمرنا لله صاحب الأمر، إذ أيقن كل منا بالهلاك، ولم يمض وقت قليل حتى ألقى طائر الرخ تلك الصخرة العظيمة وهو يصرخ بصوت كالرعد القاصف. وكان من فضل الله علينا، أنها وقعت في البحر بالقرب منا، فارتفعت الأمواج حتى غطت سفينتنا ونحن فيها، ولكنها عادت فانحسرت عنها، بعدما غرق بعضنا. ونظرنا في الجو فإذا بطائر الرخ ابتعد راجعاً من حيث جاء، فتنفسنا الصعداء، وحمدنا الله على نجاتنا من ذلك الخطر الشديد...

ولم نزل بعد ذلك نواصل السير في عرض البحر، وقلوبنا ترتعد من شدة الخوف، إلى أن كتب الله لنا السلامة، فوصلنا إلى البر سالمين، ثم افترقنا بعدما اقتسمنا ما جئنا به من جزيرة الرخ، فكانت من نصيبي تلك القطعة من جناح الرخ، كذلك بعض اللحم الباقي من فرخه، رجعت بهما إلى بلدي حيث تفرج أهلها على تلك القصبة. وأكلوا معي من ذلك اللحم، فأكسبهم الصحة والشباب.

رجل صالح

لما كانت الليلة الثامنة والتسعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان، ملك عظيم الشأن، واسع السلطان، خرج يوماً للطواف بالمدينة في موكب كبير، ليس له في أبهته نظير. وقد ارتدى هو وأعوانه أفخم الثياب، وتزينوا بأغلى الجواهر، وركبوا أحسن الجياد، وتقلدوا أمضى الأسلحة، ومن خلفهم عدد لا يحصى من المماليك والجنود. وقد ازدحم الناس في الطرقات، يتفرجون على الزينات، ويقدمون للملك أزكى التحيات، فلما رأى الملك ذلك كله، تملك الغرور والجبروت قلبه وعقله، وفيما هو كذلك وقف في طريقه رجل مسكين، وقبض على عنان فرسه ملتمساً الاستماع لشكواه. فأمر الملك بالقبض عليه، وقطع يديه ورجليه، لأنه تجرأ على الوقوف في طريق موكبه، وهذا من أكبر الكبائر في شرعه ومذهبه.

لما سمع الرجل المسكين ذلك الحكم الجائر، قال للملك: أمهلني لحظة حتى أفضي إليك بسر خطير. فقال له الملك: ما هذا السر؟ فأدنى الرجل فمه من أذنيه، وهمس بكلمة إليه. لما سمعها الملك رمى بنفسه من فوق جواده عليه، وأخذ يقبل يديه ورجليه، ويقول له: أمهلني حتى أرجع إلى قصري. فهمس الرجل إليه مرة أخرى قائلاً: كلا أيها الملك الجبار، ولا فائدة قط من محاولتك الفرار. وقد صرحت لك بأني عزرائيل، وقد جئت لقبض روحك فوراً بغير تأجيل. وما أتم كلامه حتى اختفى عن العيون، بينما وقع الملك ميتاً والناس من حوله يتعجبون. ويقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون!

أما ملك الموت، فإنه ذهب بعد ذلك إلى رجل من عباد الله الصالحين، فوجده قائماً يصلي لله رب العالمين، فوقف ينتظره إلى أن فرغ من الصلاة. ثم قال له: إني ملك الموت وقد جئت لآخذ روحك إلى الله، فقال له الرجل الصالح: بشرك الله بالخير كما بشرتني بلقاء مولاي. وطلب إليه أن يعجل بأخذ روحه، فقال له ملك الموت: إن الله أمرني أن أقبض روحك في اللحظة التي تختارها. فقال له الرجل الصالح: ما دام الأمر كذلك فأقبض روحي وأنا ساجد بين يدي الله. ثم عاد إلى صلاته، وقبض ملك الموت روحه وهو ساجد، فصعدت إلى بارئها راضية مرضية.

الموصلي والجارية المغنية

لما كانت الليلة التاسعة والتسعون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد للملك شهريار: مما يحكى أيها الملك السعيد أن إسحق الموصلي مغني الخليفة الرشيد قال: ضجرت من ملازمة قصر الخليفة كل يوم، فخرجت إلى المدينة لأفرج عن نفسي وقلت لغلماني: إذا طلبني الخليفة فأبلغوه أنني خرجت لإنجاز بعض المهام الخاصة بي، ولن أرجع إلا آخر النهار. ثم أمضيت ساعة وأنا أطوف بشوارع المدينة وأزقتها، وكانت الشمس قد ارتفعت، واشتدت حرارتها، فملت إلى دار وجدتها بالقرب مني، ووقفت تحت ظل أمامها ريثما استريح من عناء المشي.

فيما أنا كذلك، أقبل غلام أسود يقود حماراً أبيض، ركبت فوقه جارية ترتدي ملابس فاخرة، وتتحلى بجواهر كثيرة نادرة. ثم ترجلت عند باب الدار، فإذا هي معتدلة القوام، ساحرة الابتسام، لها عينان كحيلتان، وحاجبان مزججان، ووجه مشرق فتان، وفي صدرها رمانتان كبيرتان. ثم دخلت تلك الدار وهي تتمايل كغصن البان، فوقفت في مكاني حيران ولهان، وقد اشتعلت في قلبي النيران. ثم سألت عنها ذلك الغلام، فقال لي: إنها جارية مغنية، وقد دعاها صاحب هذه الدار إلى حفلة أقامها لبعض إخوانه وخلانه. فزادني هذا شوقاً إلى لقائها، لسماع عزفها وغنائها.

قال إسحق الموصلي: وبينما أنا أفكر في حيلة أدخل بها تلك الدار، وقد أعياني التفكير والانتظار، إذ أقبل بعض المدعوين، وسارع غلمان الدار إلى استقبالهم مرحبين، فدخلت معهم، متظاهراً بأنني منهم. وظنوا هم أنني صديق لصاحب الدار مثلهم، فلم يدهشوا لوجودي بينهم، وقادنا الغلمان إلى مجلس لطيف، مدت فيه مائدة عظيمة، حوت شيئاً كثيراً من ألوان الطعام وأنواع الشراب، فجلسنا معززين مكرمين، وبعدما أكلنا وشربنا حتى اكتفينا، دعا صاحب الدار تلك الجارية المغنية فجاءت إلينا، وسلمت علينا، فإذا هي ذات لسان فصيح. كما أنها ذات وجه مليح.

شربت معنا أقداحاً عدة، وهي تطرفنا بألطف المفاكهة والمزاح، وبعد ذلك أمسكت عودها، فأصلحت أوتاره ببراعة وإتقان، وعزفت عليه أبدع الألحان، ثم غنت بصوت حنون، وأداء من أروع ما يكون:

قل للغزالة، وهي غير غزالة

والجؤذر المكحول غير الجؤذر

إن كنت تنوين الوصال فعجلي

أو كنت لا تنوين وصلا فاعذري

قال إسحق: فطربنا جميعاً لغنائها، وحسن صوتها وأدائها. ثم شربت معنا أقداحاً أخرى، وتمايلت دلالاً وسكراً، وغنت هذين البيتين:

الطلول - الدوارس

فارقتها الأوانس

أقفرت بعد أنسها

فهي قفراء دامس

فأبدعت وأطربت، ثم غنت لحناً قديماً لي كنت صنعته لهذين البيتين:

قل لمن صد عاتباً

ونأى عنك جانباً

قد بلغت الذي بلغت

وإن كــنـــت لاعــبـــاً

فتمايل القوم طرباً، واهتزوا عجباً. وكنت لحظت في أدائها ذلك اللحن بعض النقص، فطلبت إليها أن تعيده لأصلحه لها. فأغضبها مني هذا الطلب، وغضبوا علي لغضبها كل الغضب، ثم أخذوا يتساءلون عمن أكون، ومضت مدة وهم يتهامسون ويتغامزون. وما إن عرفوا أنني لست من المدعوين، حتى انهالوا علي باللوم المهين. ولم يكتف أحدهم بأن يؤنبني، فهمّ بأن يضربني، ولكن صاحب الدار منعه وقال لي: لا بأس بأن تبقى في مجلسنا بشرط ألا تتكلم. فقبلت شرطه شاكراً. وكانت الجارية تركت عودها وغادرت المجلس، فقاموا جميعاً لترضيتها وإرجاعها.

انتهزت أنا فرصة خروجهم جميعاً، وبقائي في المجلس وحدي، وأمسكت العود فأصلحت أوتاره على طريقتي، ثم وضعته في مكانه ورجعت إلى مكاني. دون أن يشعر بي أحد أو يراني. فلما رجعت الجارية معهم، وأمسكت العود مستأنفة عزفها عليه، فطنت إلى ما جد على أوتاره من إصلاح، وصاحت متسائلة في دهشة: من الذي أصلح العود؟ فأجابوا جميعاً بأنهم لم يمسوه، ولكنها قالت: بل أصلحه واحد منكم، ولا شك في أنه عازف بارع جداً. والله لا أعزف ولا أغني إلا إذا عرفته وسمعت عزفه.

لما سمع القوم كلامها، أخذتهم الحيرة، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض، إلى أن قلت لصاحب الدار: هل يعفيني سيدي من شرطه لأقول كلمة؟

فقال لي: قل وأوجز، واحذر أن تغضب مغنيتنا مرة أخرى. فوقفت وقلت: إنني أنا الذي أصلحت العود. وسأعزف عليه بقدر ما أستطيع، لأجل القسم فقط ثم أمسكت العود، وعزفت عليه بطريقة لا يعرفها غيري، فإذا بالجارية تبكي، وإذا بالقوم قد انعقدت ألسنتهم لشدة ذهولهم. وطلبت الجارية إليّ أن أغني لحنا بهذه الطريقة، فغنيت هذه الأبيات:

كان لي قلب أعيش به

فاكتوى بالنار واحترقا

أنا لم أرزق محبتها

إنما للعبد ما رزقا

لم يكن ما ذقت طعم هوى

ذاقه والله من عشقا

قال إسحق الموصلي: ثم تركت العود بين يدي الجارية المغنية، وهممت بالرجوع إلى مكاني في المجلس، ولكنها وكل الحاضرين، تعلقوا بي، وأخذوا يقبلون يدي وأطراف ثوبي، ملتمسين أن أغني لحناً آخر، فأصلحت العود بطريقة جديدة فريدة، ثم عزفت عليه ما جعلهم كلهم يرقصون، وغنيت هذه الأبيات:

ألا من لقلب ذائب النوائب

أحاطت به الأحزان من كل جانب

حرام على رامي فؤادي بسهمه

دم صبه الحشا والترائب

تبينت يوم البين أن تصبري

على البعد أضحى كالظنون الكواذب

أراق دما، لولا الهوى ما أراقه

فهل لدمي من ثائر أو مطالب؟

لم يبق أحد من الحاضرين إلا قام صائحاً مأخوذاً بالطرب، ثم أقبل علي صاحب الدار فقبل يدي وقال لي: جعلت فداك، إنك والله لإسحق الموصلي مغني الخليفة ونديمه... فلا تؤاخذنا بما فرطنا في حقك، ولا تحرمنا من الاستمتاع بفنك بقية ليلتنا. ثم أقبلت الجارية والحاضرون جميعاً، وقالوا مثلما قال صاحب الدار، فقلت لهم: حباً وكرامة. وغنيت الألحان التي غنتها الجارية من صنعتي، فكانت أشد الحاضرين طرباً وإعجاباً، ولم تكف عن مغازلتي بنظراتها طوال الوقت...

ولم نزل كذلك حتى طلع النهار وانصرف جميع المدعوين. فقال لي صاحب الدار: هذه الجارية المغنية قد اشتريتها أمس بعشرة آلاف دينار، وهي هدية مني إليك، بشرط أن تمكث أنت وهي عندي شهراً كاملاً. فقبلت شرطه لشدة تعلقي بالجارية. وظل الخليفة طوال هذا الشهر ببحث عني في كل مكان فلا يعثر لي على أثر. فلما انقضى الشهر ورجعت إلى داري ومعي الجارية. علمت من غلماني بقلق الخليفة لغيابي. فتوجهت إليه فوراً، وقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها. فتعجب غاية العجب. ورغب في رؤية الجارية وسماع غنائها، ولما رآها وسمعها، أبدى إعجابه بجمالها وأدبها وعذوبة صوتها وحسن أدائها. وأمر لي ولها بمئة ألف دينار. كما أمر بمكافأة سخية لصاحبها الذي أهداها إلي، تقديراً لكرمه وأريحته!

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

طائر الرخ يطارد السفينة حتى الغرق والمغربي ينجو بأعجوبة

الموصلي يهرب مع جاريته والخليفة يكافئه بألف دينار
back to top