أبوبكر الأنباري يكشف سرّ رئيس دير الأنوار (الأخيرة)
تستكمل شهرزاد حكايات الليالي العربية، وتنتقل إلى قصة أبي بكر الأنباري وسفره إلى بلاد الروم ولقائه رئيس الدير، وهو عندما أراد الحج سمع صوتاً ينتحب ويدعو على باب الكعبة، وقال لنفسه إني أعرف صاحب هذا الصوت، وهو رئيس دير الأنوار، فما الذي جاء به إلى هذه الديار؟ كذلك تسرد قصة جماعة الأدباء والظرفاء الذين يتذاكرون أخبار العشاق.
لما كانت الليلة الخمسمئة قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد أن أبا بكر بن محمد الأنباري قال: خرجت الأنبار، في بعض الأسفار، قاصداً إلى عمورية، في البلاد الرومية، فلما مررت بدير الأنوار في طريقي، اعتزمت زيارة رئيسه لأنه كان صديقي، وكنت قد زرته قبل ذلك مرات، وأعجبت بكرمه وانقطاعه مع أصحابه للعبادة والتأملات. لما طرقت باب الدير، لم يجبني أحد، وتحققت أنه قد خلا من جميع من كانوا فيه. فتعجبت من ذلك، ثم واصلت رحلتي إلى أن بلغت غايتي. وكتب الله لي السلامة في إقامتي. وكان موعد الحج اقترب فخرجت مع قافلة الحجاج، ولم نزل نقطع الوهاد والفجاج إلى أن وصلنا إلى مكة المكرمة سالمين، وأخذنا نطوف بالكعبة الشريفة ملبين داعين. تابع أبو بكر الأنباري: فيما أنا أهم بالانصراف، بعدما انتهيت من الطواف، وقعت عيناي على شيخ ظاهر التقوى والصلاح، وقد تعلق بأستار الكعبة وأخذ يبكي بدمع سحاح، ويقول: يا رب كل مربوب، يا غافر الذنب وساتر العيوب، يا عالما بما في القلوب، ومن عنده مفاتيح الغيوب. علمك بحالي، يغني عن سؤالي، فاعف عني واغفر لي وارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين. لما سمعت صوته وهو يردد هذا الدعاء، ويواصل بالبكاء، تعجبت غاية العجب، وقلت لنفسي: إني أعرف صاحب هذا الصوت، وهو رئيس دير الأنوار، فما الذي جاء به إلى هذه الديار؟ ثم اقتربت منه وقلت له: ألست عبد المسيح رئيس دير الأنوار؟ لما سمع هذا السؤال، بدا كأنما أصيب فجأة بمرض عضال، أصاب عقله بالخبال وجسمه بالانحلال. ولكنه ما لبث قليلا حتى عرفني، فأطمأن قلبه وعانقني، ثم قص علي قصته فقال: اسمي الآن عبد الله الراغب، لا عبد المسيح الراهب. فقد هداني الله ومن كانوا معي إلى الإسلام، وكان ذلك من أكثر من عام إذ نزلت عندنا جماعة من المسلمين الزهاد، ومعهم غلام يحمل لهم الزاد. ولما أرادوا استئناف سفرهم بعد أيام، رفض ذلك الغلام أن يصحبهم وآثر المقام، لإصابته بالمرض والسقام. وعرفنا بعد ذلك أن علته سببها الغرام، وأن التي تيمت قلبه فتاة من بنات الأعجام، وقد أحبته كما أحبها، وطلبت إليه أن يدخل في دينها كي يتزوجها وينال قربها. فاستعاذ بالله من الكفر بعد الإيمان، وأقام عندنا في الدير شهراً يعاني المرض والحرمان، لكنه لا ينقطع عن عبادة الرحمن، وذكره بالقلب واللسان. ثم سلط عليه الرهبان بعض الصبيان، يقذفونه بالحجارة ويضايقونه في كل مكان. وكنت أنا أعطف عليه، وكثيراً ما منعت وصول إيذائهم إليه. فبينما أنا أعوده يوماً وقد أضناه السقام، واشتد ما به من الوجد والهيام، إذ قال لي بلسان عربي فصيح: جزاك الله عني خيراً يا عبد المسيح، وهداك إلى طريقه الصحيح الصريح.
ثم أخبرني بأنه رأى في المنام، كأنه والفتاة معشوقته قد بلغا غاية المرام، ويقيمان معاً في قصر كبير، فيه فرش وثير، وخير كثير، ومن حولهما رياض قطوفها دانية، وأنهار جارية، وهما في عيشة راضية. وما أتم سرد رؤياه، حتى انطبقت عيناه، وغمغم قائلاً: أشهد ألا إله إلا الله. ثم سكنت حركته وفارق الحياة. وفيما نحن نجهزه لمواراته التراب، إذا بضجة كبيرة عند الباب، ثم إذا بالفتاة معشوقة الغلام، قد أقبلت وجهها يشرق كالبدر التمام، وألقت على جثمانه السلام. وقالت لنا: لقد رأيت الليلة في المنام، أني تزوجت هذا الغلام ثم سرت معه إلى قصر شاهق كبير، ليس له في فخامته أي نظير وحينما أردت الدخول خلفه من الباب، رفض البواب ومن معه من الحجاب: وقالوا لي: ادخلي أولاً في دين الإسلام، ثم ادخلي الجنة بسلام. فنطقت بالشهادتين، ودخلت الجنة قريرة العين. ثم انتبهت من نومي، فإذا بي أعلم بموت الغلام المسلم من قومي، فجئت إلى هنا مسرعة، كي أكون معه. وما أتمت الفتاة كلامها، حتى سقطت بجانب الغلام ذائقة حمامها.وجاء أهلها بعد ذلك ليأخذوا جثمانها ويدفنوها في مقبرتهم، ولكنا جميعاً عجزنا عن حمله، لشدة ثقله. ولم نزل في حيرة من هذا الأمر العجيب، إلى أن مر على الدير شيخ مسلم غريب، فأشار علينا بدفن الفتاة مع الغلام، ما دامت قد دخلت مثله في دين الإسلام، فلما وافقنا على ذلك وأردنا حمل الجثمان وجدناه قد خف في الميزان، حتى ليستطيع حمله أحد الصبيان فعجبت من ذلك أنا وجميع الرهبان، ولم يسعنا بعد ذلك البرهان، إلا أن أسلمنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
العابد والسحابة
لما كانت الليلة الأولى بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أنه كان في بني إسرائيل، رجل من الصالحين المشهورين بالعبادة، الموصوفين بالزهادة، وكان إذا دعا ربه أجابه، وإذا سأله أعطاه. وقد تعود السياحة في البراري والقفار، ومواصلة الأذكار والاستغفار بالليل والنهار. وكان الله سبحانه وتعالى سخّر له سحابة تسير معه حيث يسير، وتسكب عليه ماء ليتوضأ منه ويشرب، فما زال على هذه الحال، إلى أن اعتراه فتور، لأمر من الأمور، فانتزع الله منه سحابته، وحجب عنه إجابته فكثر لذلك حزنه وطال كمده، وما زال يحن إلى عهد الكرامة الممنون بها عليه، ويتحسر ويأسف ويتلهف إلى أن في إحدى الليالي، جاءه هاتف في نومه يقول له: أن شئت أن يرد الله عليك سحابتك، فاقصد الملك الفلاني والتمس بركة دعواته الصالحات. لما قام من نومه، استأنف السياحة في الأرض، ولم يزل سائراً حتى دخل البلدة التي ذكرت له في المنام، فسأل عن قصر الملك وتوجه إليه، فلما وصل باب القصر، وجد غلاماً جالساً على كرسي عظيم، وعليه كسوة فخمة فوقف أمامه وسلم عليه، فرد السلام وسأله: ما حاجتك؟ فقال: أنا رجل مظلوم، وقد جئت للملك أرفع قصتي إليه. فقال له الغلام: لا سبيل لك اليوم لمقابلته، لأنه جعل لأهل المظالم يوماً معيناً في الأسبوع يدخلون عليه فيه، وهو يوم كذا...لما سمع جواب الغلام، أنكر على الملك احتجابه عن الناس، وقال لنفسه: كيف يكون هذا ولياً من أولياء الله عز وجل، وهو على مثل هذه الحال؟ ومكث في المدينة ينتظر اليوم الذي قيل له عليه، فلما كان ذلك اليوم، رجع إلى القصر فوجد عند الباب أناساً ينتظرون الإذن لهم في الدخول، فوقف معهم إلى أن خرج أحد الوزراء وبين يديه خدم وعبيد، وقال: ليدخل أرباب المظالم... فدخل معهم. ولما وصل إلى الملك، رآه قاعداً وبين يديه أرباب مملكته بحسب أقدارهم ومراتبهم. وأخذ الوزير يقدم له واحداً بعد واحد بعد واحد، حتى وصلت النوبة إليه. فلما قدمه الوزير، نظر الملك إليه وقال: مرحباً بصاحب السحابة، أقعد حتى أفرغ لك!قال الرجل الصالح: لما سمعت كلام الملك، تعجبت غاية العجب، واعترفت بمرتبته وفضله، فلما قضى بين الناس وفرغ منهم، أخذ بيدي ومضى بي إلى جناحه الخاص، ووجدت هناك عند الباب عبداً أسود، وعليه ثياب فخمة، وعن يمينه وشماله أسلحة كثيرة وما كاد يرى الملك قادماً حتى قام وفتح الباب له، فدخل الملك ويدي في يده. ومشينا حتى وصلنا إلى باب قصير، ففتحه الملك بنفسه، ودخل وأنا معه، فإذا ببيت ليس فيه إلا سجادة، وإناء به ماء للوضوء، وشيء من الخوص. ثم تجرد الملك من ثيابه التي كانت عليه، ولبس جبة خشنة من الصوف الأبيض، وجعل على رأسه قلنسوة من لبد. وبعد أن قعدنا هناك، نادى زوجته، وقال لها: أتدرين من ضيفنا في هذا اليوم؟ فقالت: نعم... هو صاحب السحابة. فقال لها: أخرجي إذن. فلما خرجت وجاءت إلينا، إذا هي امرأة كأنها الخيال، ووجهها يتلألأ كالهلال، وعليها جبة صوف وقناع. ثم قال الملك لي: يا أخي أتريد أن تعرف خبرنا، أو ندعو لك وتنصرف؟ فقلت: بل أريد أن أسمع قصتكما.. فقال لي: كان آبائي وأجدادي يتداولون المملكة ويتوارثونها كابراً عن كابر، إلى أن ماتوا ووصل الأمل إلي، فبغض الله ذلك إلي وأردت أن أسيح في الأرض وأترك أمر الناس لأنفسهم. ثم أني خفت عليهم الفتنة وتضييع الشرائع، فتركت الأمر على ما كان عليه، وجعلت لكل منهم جراية تكفيه، وصرت ألبس ثياب الملك يوماً في الأسبوع وأجلس في الديوان، بينما يجلس العبيد على الأبواب، إرهابا لأهل الشر، وذباً عن أهل الخير وإقامة للحدود، فإذا فرغت من ذلك كله دخلت منزلي، وبدلت ثيابي كما ترى. وزوجتي هذه هي ابنة عمي، وقد وافقتني على خطتي، وساعدتني على العبادة، ونحن نعمل بالنهار سلالاً من هذا الخوص. وما يتحصل من ثمنها نفطر به من صومنا. وقد مضي علينا ونحن على هذه الحالة نحو 40 سنة. فأقم معنا حتى نبيع خوصنا وتفطر معنا، ثم تبيت عندنا وتنصرف بحاجتك أن شاء الله. وقال الرجل الصالح: لما كان آخر النهار، أتى غلام وأخذ ما عمل الملك وزوجته من الخوص، وسار إلى السوق فباعه بقيراط، واشترى به خبزاً وفولاً حملهما إلينا. فأفطرت معهما ونمت عندهما. وكانا طوال الليل يصليان ويبكيان. ولما طلع الفجر سمعت الملك يدعو الله قائلا: اللهم إن هذا عبدك فلان يرجو أن ترد سحابته عليه، وأنت على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. وكانت زوجته تؤمن على دعائه. وما كادا ينتهيان من الدعاء، حتى ظهرت سحابتي في السماء. فالتفت الملك إلي وقال لي: أبشر يا أخي فقد رد الله سحابتك. ثم ودعني وانصرفت راجعاً إلى بلادي والسحابة فوق رأسي.ظرفاء وعشاق
لما كانت الليلة الثانية بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن العتبي جلس يوماً في داره وعنده جماعة من الأدباء والظرفاء، وأخذوا يتذاكرون أخبار العشاق، وما يكابدون من الأشواق. فروى كل منهم ما عنده من ذلك، ولكن شيخاً كبيراً منهم بقي طوال الوقت ساكتاً، مكتفياً بالاستماع، فقال له العتبي: ما بال شيخنا يضن علينا بالحديث؟ فقال الشيخ: ما عندي ما أحدث به في هذا الشأن، إلا حكاية واقعة كنت فيها شاهد عيان، وكلما ذكرتها اشتدت علي الأحزان. قال العتبي: لما سمعنا جواب الشيخ، اشتد شوقنا إلى سماع حكايته، ولم نزل نلح في ذلك عليه، ونتوسل إليه بكل عزيز لديه، إلى أن قبل أن يحدثنا بها فقال: كانت لي ابنة بارعة الجمال، كاملة الخلال، وكان لنا جار من خيرة الشبان، اشتهر بالميل إلى سماع الألحان، وقد اشترى لذلك بعض القيان الحسان، وأخذ يعقد في داره كل ليلة مجلساً للغناء، يدعو إليه من يشاء. وكنت في مقدمة مدعويه هؤلاء. وأهوى سماع قينة عنده كانت قد تعلق قلبها بحبه، ولكنها لم تجد سبيلاً إلى قلبه، إذ كان مشغولاً بحب أخرى، أخفى أمرها على الخلق طراً، وأبقاه في صدره سراً. ومضي الشيخ فقال: ثم اتفق أن حضرت مجلسه في أحد الأيام، فلما دارت في روؤسنا المدام، أخذت تلك القينة العاشقة تطربنا بالأنغام، ثم اشتد ما بها من الوجد والغرام، وغنت هذين البيتين:علامة ذل الهوىعلى العاشقين البكاولا سيما حينمايلوم الورى من شكافطربنا جميعاً أشد الطرب، وبكي الشاب صاحب الدار وانتحب، واستعادها الإنشاد مرات، وكلما سمع غناءها سكب العبرات، وصعد الزفرات. ثم قال لها: ما دامت الشكوى، لا تذهب البلوى، وما دام الوصال، يبدو بعيد المنال كأنه من المحال. فلا خير للعاشق في حياته، ولا راحة له إلا بمماته! ثم وقع مغشياً عليه، فلما سارعنا إليه، لم نستطع إنعاشه بالمنعشات. وما هي إلا لحظات حتى تحققنا أنه مات!قال العتبي: ثم بكي الشيخ فبكينا معه، حزناً وأسفا على ذلك الشاب العاشق الذي لقي مصرعه. فلما رأى الشيخ شدة تأثرنا، من أولنا إلى آخرنا، لا فرق في ذلك بين أصغرنا وأكبرنا. كفكف دمعه الهطال، واستأنف الحديث فقال: وما كادت القينة تتحقق موت الشاب، حتى اشتد ما بها من الاضطراب، وأخذت في العويل والانتحاب. ثم ألقت بنفسها على جثته الهامدة، وصاحت صيحة واحدة. ثم إذا هي قد لحقت به إلى عالم الأموات. فتضاعفت في نفوسنا الحسرات. ولم نبرح المكان حتى جهزناهما، ثم دفناهما وترحمنا عليهما. وما كدت أرجع إلى داري، حتى فوجئت بما ضاعف أكداري، وبلبل أفكاري. وذلك أنني وجدت ابنتي جالسة في انتظاري. وقالت لي وهي تبكي وتنوح من قلب مجروح: لقد أبت قينته إلا أن تموت حزناً عليه، مع أنها حاولت الوصول إلى قلبه فلم تجد سبيلاً إليه. ولو أنه علم بأني أبادله هواه، ما آثر الموت على الحياة. ثم شهقت شهقة فاضت فيها روحها الطاهرة، وخلفتني بعدها أقاسي وحدتي الحائرة، وأشكو تلك الظروف الجائزة، إلى أن ألحق بها في الآخرة. وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.