كيم يونغ أون يؤدي حيلة سحرية
لا بد من أن نقر بمهارة ترامب في استغلاله الفرصة الدبلوماسية في قمة سنغافورة، لكن مَن كان له الدور الأكبر في صوغ هذا اللقاء الاستثنائي يبقى الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، الذي يُعتبر بالتأكيد، كما وصفه ترامب، شاباً "موهوباً جداً" حقق أمراً "ما كان ليحققه واحد من كل عشرة آلاف على الأرجح".أدى كيم حيلة سحرية: فقد دفع ترامب ليكون شريكاً في إعادة تصنيف بلده الفقير الخاضع لحكم مستبد عنيف كمشروع استثمار عصري في شقق ومنتجعات، كذلك قدّم كيم وعداً مبهماً "بالعمل نحو نزع السلاح النووي بالكامل" وأقنع بطريقة ما ترامب بوصف بيان هذه القمة الواهي الذي لا يتعدى النصف صفحة بأنه اتفاق "شامل جداً".احتفل ترامب بعد ذلك بمهارته كعاقد صفقات: "هذا ما أقوم به. تمحورت حياتي كلها حول الصفقات، فقد عقدت الكثير منها". لكن اللافت للنظر حقاً إعرابه الأخير عن حرفيته كنجم من نجوم تلفزيون الواقع يتحلى بموهبة ممثل بالفطرة يتمتع بقدرة كبيرة ساحرة على النطق بكل عبارة، مهما كان يشك في أمرها، كما لو أنها الحقيقة الدامغة.
لعل هذا برنامج "المتدرب: نسخة الحاكم المستبد الكوري"، الذي يؤدي فيه ترامب دور المعلّم لـ"الرجل القوي" الذي يزداد بروزاً ويحقق التقدم، لا أسعى إلى التقليل من فائدة هذه القمة المحتملة للعالم، فلا شك أن العالم أصبح أكثر أماناً مما كان عليه قبل أسبوع، وأن ترامب يستحق بعض التصفيق العالمي.ولكن من الضروري أن نرى لقاء سنغافورة على حقيقته: بدأ كيم يعد العدة منذ خمس سنوات مع دعوة لم تحظَ باهتمام كبير إلى "نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية" و"محادثات رفيعة الشأن" مع الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين، تلاعب كيم بمهارة بالأحداث والتطورات، متحدياً خطر الهلاك بـ"النار والغضب"، الذي لوّح به ترامب السنة الماضية، ليكمل تطوير صاروخ مزود برأس نووي يستطيع تهديد الولايات المتحدة، وعندما حصل كيم على هذه القدرة في شهر نوفمبر، بدأ يميل نحو المفاوضات. بدا جلياً أن كيم كان يأخذ أكثر مما يعطي، وأن ترامب أراد هذه القمة بشدة حتى إنه كان مستعداً للتخلي عن بعض مطالبه السابقة، ونتيجة لذلك رأت بيونغ يانغ في هذا الوضع نوعاً من فرصةٍ لعقد صفقة مقابل وعود في الهواء، علماً أن هذا ما كان يحذر منه مستشار الأمن القومي جون بولتون طوال 25 سنة.أصاب ترامب في رهانه على أن عملية التحديث والنمو الاقتصادي، التي تقودها الولايات المتحدة، ستحمل بمرور الوقت تغييرات سياسية تقلل من الخطر النووي المحتمل الذي يواجهه الأميركيون وحلفاؤهم، لكنني أتساءل: هل خطر على بال ترامب أن هذا كان بالتحديد رهان أوباما في الاتفاق الإيراني، الذي وصفه ترامب بـ"أسوأ صفقة عُقدت"؟ يكمن الاختلاف الرئيس في أن أوباما حصل على التزام حقيقي مثبت بتدمير إيران مخزونها النووي قبل أن يقدّم أي تنازلات أميركية كبيرة.أخيراً، نصل إلى وجه محيّر من أوجه هذه القمة: صفعة ترامب غير المبررة إلى كوريا الجنوبية، حليفنا الديمقراطي الأمين، فلا تزال الولايات المتحدة تملك قوة عسكرية كبيرة في الجوار، إذا نشأت الحاجة إليها، ولنقبل حتى بإصرار ترامب على ضرورة أن تسحب الولايات المتحدة "في مرحلة ما" جنودها البالغ عددهم 30 ألفاً تقريباً، مع أن وجودهم يطمئن كوريا الجنوبية، واليابان، وحتى الصين.كلا، جاءت إهانة ترامب المذهلة حقاً حين اقترح أن الرئيس مون جاي إن أقدم على انفتاحه الجريء على كيم كي يحد من الخطر الذي تواجهه الألعاب الأولمبية في بيونغ تشانغ ويجني بالتالي الأموال، وأعلن ترامب: "ما كانوا يبيعون الكثير من التذاكر، إلا أنها بيعت بجنون"، بعدما وافقت كوريا الشمالية على المشاركة، وفق ترامب التاجر المحض دوماً.لا تُعتبر الدبلوماسية جميلة دوماً، ويقدِم بعض مَن نشك في قدراتهم على خطوات جيدة، لذلك لنفرح اليوم بنجاح ترامب في سنغافورة ونأمل أن ينجح أحد في تطبيق وصية ريغان "ثق إنما تحقق" على كوريا.* ديفيد أغناتيوس