بعدما عيّن بوتين حكومته الجديدة وأصدر مراسيمه وأوامره الأولى في مطلع مايو عام 2018، اتضحت الخطوط العريضة لما يمكننا توقعه من ولايته الجديدة كرئيس لروسيا. في خطاب تسلمه منصبه، حدد بوتين هدف جعل روسيا «دولة عصرية وناشطة» تستطيع تحقيق الإنجازات في مجالات الحياة كافةً، وفي مرسومه «عن الأهداف الوطنية والغايات الاستراتيجية لتنمية روسيا الاتحادية حتى عام 2025»، الذي وقعه في اليوم ذاته، أكّد بوتين أن الحكومة تبذل قصارى جهدها «لتحقق تنمية علمية، وتكنولوجية، واجتماعية-اقتصادية كبيرة»، وأضاف أن هذا سيسمح بالتوصل إلى نمو سكاني طبيعي ومستدام ورفع متوسط العمر المتوقع إلى 78 سنة، ومن ثم إلى 80 سنة بحلول عام 2030.

يبدو الكثير من هذه الأهداف غامضاً ويعتمد تطبيقه على تعريف القادة لمسائل مثل مستوى الفقر والابتكار التكنولوجي وغيرهما، إلا أن هذا البرنامج عموماً يدعو بوضوح إلى استثمار رأسمال ضخم، ولكن من أين سيأتي هذا التمويل؟ وكيف سيُنفق؟ تناولت برامج تنمية عدة (وضعتها مجموعات مختلفة من خبراء الاقتصاد بدعم من سياسيين نافذين) هذين السؤالين حتى قبل الانتخابات الرئاسية، فبما أن نتيجة الانتخابات كانت محسومة مسبقاً، لم يتركّز الصراع الفعلي على هوية الرئيس المقبل بل على برنامج التنمية الاقتصادية الذي سيُختار ليُطبَّق خلال السنوات الست القادمة.

Ad

بما أن رئيس الوزراء المقبل سيقود هذا البرنامج، تحوّل هذا المنصب إلى مركز الصراع. ساد الافتراض أن ديميتري ميدفيديف، إذا استمر في هذا المنصب، فسيواصل سياسته التي تضمن الاستقرار من خلال عدد من التدابير العابرة من دون تطبيق أي إصلاحات جذرية، ويتوافق هذا المسار إلى حد كبير مع فلسفة بوتين المثيرة للجدل، علماً أن الرئيس الروسي اعتقد سابقاً أن كل المسائل تسير على ما يُرام في روسيا وأن هذا البلد لا يحتاج إلا إلى فترة طويلة من الاستقرار من دون انتفاضات أو تقلبات قوية.

خطوات إصلاحية

ولكن نشأ أخيراً الانطباع أن الصعوبات الاقتصادية أقنعت الرئيس بالحاجة إلى تطبيق نوع ما من الإصلاح، وقد تجلى ذلك خصوصاً من خلال الانتباه الذي أغدقه على نائب رئيس الوزراء السابق ووزير المالية أليكسي كوردين. بعد موعده في عام 2016 مع رئيس مجلس مركز الأبحاث الاستراتيجية الواسع النفوذ، الذي طوّر برنامج البلد الاقتصادي خلال عهد بوتين الأول، بدأ كوردين بنشاط طرح الخطوات الإصلاحية.

يؤيد كوردين الإصلاحات «الليبرالية» التي صممها رئيس الحكومة بحكم الواقع آنذاك يغور غايدار وطبقها خلال عهد يلتسن، ويدعم اليوم نسخة جديدة من هذه المقاربة. يدعو كوردين خصوصاً إلى تبني سياسة نقدية صارمة تعزز النمو الاقتصادي، لكنه يطبق أيضاً الدروس التي قدمتها إخفاقات تسعينيات القرن الماضي، فقد وسّع برنامج غايدار بزيادة الاستثمار في مجالَي التعليم والعلوم وبإنشاء مؤسسات فاعلة في دولة تخضع لحكم القانون، بما فيها محكمة مستقلة، واقترح كوردين تمويل هذه الأهداف بزيادة ضريبة الدخل ورفع سن التقاعد.

لكن مستشار الرئيس للتكامل الاقتصادي الإقليمي سيرغي غلازييف عارض هذه المقاربة، طارحاً برنامجه الانعزالي الخاص. تبوأ غلازييف سابقاً منصب وزير العلاقات الاقتصادية الخارجية في حكومة غايدار، إلا أنه تخلى منذ ذلك الحين عن هذه الفلسفة «الليبرالية» ودانها، يقترح هذا المستشار إنهاء اعتماد روسيا على الأسواق الأجنبية والدولار باللجوء إلى قابلية تحويل الروبل جزئياً، ومنع عمليات نقل رؤوس الأموال بحرية بغية الحد من هربها، وتحقيق عملية حشد مذهلة في الداخل.

تشير تركيبة الحكومة الجديدة إلى أن بوتين اختار الدرب الوسط بين مسار ميدفيديف السابق واقتراحات كوردين. صحيح أن ميدفيديف ما زال رئيس الوزراء، إلا أن مؤيدي كوردين يشكلون جزءاً بارزاً من الحكومة الجديدة.

يرتبط على ما يبدو قرار بوتين إبقاء ميدفيديف في منصب رئيس الوزراء بالاتفاق الأشمل بين هذين الرجلين. ربما وعد بوتين ميدفيديف بمنصب الرئيس بعد انتهاء ولايته الحالية في عام 2024 مقابل تخليه عن هذا المنصب له في عام 2012، في مطلق الأحوال، ميدفيديف سياسي مطيع ووفي يفتقر إلى الشعبية، فضلا عن أنه لا يملك، بخلاف كوردين، طموحات شخصية. ولا شك أن هذا مناسب جداً لبوتين، ولكن كان من المستحيل تعيين كوردين نائب رئيس الوزراء في حكومة يرأسها ميدفيديف نظراً إلى العلاقات المتوترة بينهما، لذلك ملأ بوتين الحكومة بداعمي كوردين، مقدماً لكوردين في الوقت عينه منصب رئيس غرفة الحسابات، مما يتيح له مراقبة النفقات والتحكم بالتالي في عمل ميدفيديف إلى حد ما.

زيادة الضرائب

سبق أن صاغ وزراء الحكومة الجديدة خططاً لحل مشاكل البلد على حساب الشعب الروسي، فلم يكتفوا بطرح فكرة رفع سن التقاعد، بل اقترحوا أيضاً زيادة الضرائب على الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي لا تكاد تنجح في البقاء عائمة في ظل الوضع الراهن، كذلك قرروا إصدار عدد من القروض المحلية، حسبما يشير وزير البيئة والموارد الطبيعية ديميتري كوبيلكين. سينادي معسكر كوردين على الأرجح بتطبيق سياسة نقدية أكثر تشدداً، في حين تحاول مجموعة ميدفيديف التخفيف من وطأة مسار مماثل بغية تفادي الاستياء الشعبي، لكن هذه السياسة لن تقود بالتأكيد إلى نمو اقتصادي بل إلى استمرار الركود وتفاقم أرباح الشركات الكبرى التي تنال حظوة بتكليفها بتنفيذ مشاريع الدولة، إلا أن سحب الأموال من الشعب من دون تقديم أي نمو في المقابل قد يشعل موجة استياء خطيرة.

في المقابل، يطالب الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، روسيا بالتخلي عن كل مواقفها خلال التفاوض لقاء وعد باستئناف العلاقات، ولا شك أن هذه شروط لا يستطيع نظام بوتين القبول بها. على سبيل المثال يطالب الغرب في المسألة الأوكرانية أن تتخلى روسيا عن دونيتس بتسليمها السيطرة على حدود هذه المنطقة إلى مراقبين دوليين، لكن هذا سيؤدي إلى تكرار «السيناريو الكرواتي» الذي تخلى فيه الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، نتيجة الضغوط الغربية، عن دعم استقلال الصرب الذاتي في كرواتيا في عام 1995. نتيجة لذلك هاجم الجيش الكرواتي الذي سلحته الولايات المتحدة المناطق الصربية ودمرها، مما أدى إلى مقتل عدد كبير من الصرب الكرواتيين أو هربهم إلى صربيا. إذاً، من غير المرجح أن يرضى بوتين بمسار مماثل، بما أنه سيولّد أيضاً رد فعل قومياً قوياً ويحكم عليه بالمصير ذاته الذي حل بميلوسيفيتش.

علاوة على ذلك، تعجز موسكو عن فهم كره واشنطن غير المبرر لإيران ونظام الأسد، ولكن على بوتين تطبيق سياسة متوازنة، فرغم العقوبات الأميركية القاسية ضد روسيا، ولّدت إدارة ترامب ظروفاً مؤاتية جداً للتوصل إلى توازن مماثل، فنتيجة انسحاب واشنطن من الصفقة الإيرانية، والضغط الاقتصادي الذي تمارسه على أوروبا والصين، وموقفها غير الواضح من كوريا، بات باستطاعة روسيا تعميق تعاونها مع الصين، فيما تحسّن في الوقت عينه جو تعاملها مع أوروبا، وهكذا تتيح هاتان الخطوتان معاً لموسكو مواصلة مسارها الحالي من دون تكبدها خسائر كبيرة.