خلال الأسبوع الماضي تصدر السفير الأميركي الجديد إلى ألمانيا ريتشارد غرينل نشرات الأخبار ولأسباب لا مبرر لها، وقد نشرت صحيفة «بريتبارت» مقابلة مع غرينل قال فيها: «يوجد الكثير من المحافظين في شتى أنحاء أوروبا، وقد اتصلوا بي لإبلاغي أنهم يشعرون بوجود انبعاث أو ولادة جديدة، وأنا بكل تأكيد أود تمكين المحافظين الآخرين في قارة أوروبا إضافة إلى قادة آخرين أيضاً، وأنا أظن بوجود أرضية واسعة من السياسات المحافظة التي تزداد ترسخاً بسبب فشل سياسات جناح اليسار».

كان ذلك التصريح هو الأحدث في سلسلة غير معتادة من الخطوات التي قام بها السفير الأميركي الذي تحدث خلال حفل غداء مع غينس سباهن وهو وزير الصحة في ألمانيا، وأحد أبرز نقاد المستشارة أنجيلا ميركل، كما سبق له أن التقط صوراً مع الوزير سباهن في عدة مناسبات، وفي انتهاك لقواعد البروتوكول طلب غرينل أن يقابل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار برلين، كما استضاف حفل غداء تكريماً لرئيس وزراء النمسا سيباستيان كيرز الذي امتدحه بشكل شخصي في المقابلة التي أجريت مع بريتبارت.

Ad

ومن أجل وضع أنشطة السفير الأميركي ضمن السياق، أقول إن هذا السلوك يشابه ما أقدمت عليه إميلي هابر وهي السفيرة الألمانية الجديدة الى الولايات المتحدة التي استهلت مهمتها في واشنطن بوعد يهدف الى تمكين الليبراليين الأميركيين كما عقدت اجتماعاً مع رئيس وزراء كندا جاستن ترودو في دالس قبل لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأقامت حفل غداء تكريماً للرئيس المكسيكي والتقت السيناتور جيف فليك وهو ناقد كبير للرئيس ترامب.

وتجدر الإشارة الى أن غرينل لا يزال في مستهل مهمته، وقد يتمكن من تغيير الأشياء، ولكن المقابلة التي أجرتها بريتبارت تشير إلى مشكلة أكبر، ومع وجود سفراء مارقين ورئيس يمتحدح نظيره الروسي فلاديمير بوتين وبيروقراطية تدعم حلف شمال الأطلسي والحرب التجارية الجارية فإن أحداً لا يستطيع أن يفهم حقاً ما هي سياسة ترامب إزاء أوروبا.

السياسة الخارجية الأميركية

من جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى ويس ميتشل وهو مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا الذي رسم استراتيجية واشنطن التي طال انتظارها نحو أوروبا في كلمة له في مؤسسة التراث، ومعروف أن ميتشل خبير مرموق في شؤون أوروبا الوسطى والشرقية، وقد ألف ثلاثة كتب حول السياسة الخارجية الأميركية. وكانت الرسالة الرئيسة في كلمته حول الجوانب الاستراتيجية هي أن الولايات المتحدة تنظر الى أوروبا من خلال المنافسة الاستراتيجية بين الحضارة الغربية وبين البديل الروسي الصيني.

وقد أعلن ميتشل بشكل فعلي جانباً محورياً في سياسة واشنطن إزاء أوروبا بعيداً عن أوروبا الغربية ونحو الشرق والجنوب، وفي حقيقة الأمر فقد انتقد ميتشل دول أوروبا الغربية بسبب فشلها في النظر الى المنافسة الاستراتيجية بصورة جدية، وخصوصا ما يتعلق بالإنفاق على الجوانب الدفاعية ومواجهة إيران.

وحرص ميتشل في خطابه على تفضيل مشاركة دول أوروبا الوسطى والشرقية حتى مع وجود خلافات: «لأن الانتقادات الخالية من الانخراط هي وصفة للإقصاء»، مشيراً الى أن «الانخراط ليس دبلوماسياً فقط، بل يشمل أيضاً كسب قلوب وعقول العامة التي تزداد بعداً عن ذكريات سنة 1989 وتوسع حلف شمال الأطلسي»، ويمكن للأشخاص المنطقيين أن يختلفوا حول ما اذا كانت مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن تعطي دولة مثل هنغاريا انتقالاً حراً الى الديمقراطية.

وعبر ميتشل أيضاً عن استيائه ومن رفض الرئيس ترامب منح تفويض لردع الحرب السياسية الروسية، ولكن الالتزام بالمشاركة التي عبر ميتشل عنها يتعين أن تكون موضع ترحيب، وكان ذلك الجزء من خطابه– بما في ذلك الدعوة الى صد جهود الصين الهادفة الى جعل أوروبا الشرقية « ملعبها « واعداً حقاً. وعلى أي حال فإن المشكلة تتمثل في ما تبقى من محور ميتشل – الدول الكبرى الثلاث في أوروبا الغربية وهي: بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

أزمة السويس سنة 1956

ويتعين على المرء أن يعود الى أزمة السويس في عام 1956 كي يتذكر متى كانت العلاقة الخاصة مع بريطانيا في أسوأ حال على سبيل المثال، ومن الوجهة النظرية تدعم ادارة الرئيس ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) لكنها بشكل عملي اتبعت سياسة قاسية رداً على ذلك القرار، وكانت تلك السياسة قد صممت بحيث تستغل حاجة الحكومة الى وضع ترتيبات تجارية جديدة.

من جهة أخرى وبشكل أساسي تستخدم إدارة ترامب حاجة بريطانيا إلى الانضمام الى منظمة التجارة الدولية بغية إجبارها على قبول تنازلات مؤلمة في عدد من قطاعات التجارة والخدمات، وذلك نتيجة عدم وجود نفوذ قوي لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، وفي غضون ذلك وفي المحادثات الثنائية تضغط الإدارة الأميركية على بريطانيا من أجل القبول بإطار العمل التنظيمي للولايات المتحدة، أو على الأقل أن تختار الخروج من السوق الواحدة للاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي، ومن شأن ذلك أن يقدم خدمة إلى المصالح الأميركية في الأجل القصير، لكنه سيضاعف صعوبة حصول لندن على اتفاقيات مع بقية دول الاتحاد الأوروبي.

وهكذا فإن إدارة ترامب تعامل بريطانيا على شكل علامة سهلة لا كحليف استراتيجي حيوي ومهم.

الصورة في ألمانيا

في ألمانيا وفيما يحظى السفير الأميركي بقدر كبير من الاهتمام الآن، فإن مشاعر الكراهية بين إدارة ترامب وحكومة برلين تزداد حدة وعمقاً، وقد وصف ترامب ألمانيا بأنها دولة «سيئة جداً في مجال التجارة»، كما اتهمها باستخدام الاتحاد الأوروبي على شكل أداة أو وسيلة من أجل الهيمنة على أوروبا.

وعلى السطح، تبدو العلاقة مع فرنسا في حال أفضل، ولكن على أي حال فإن الطبيعة المتسرعة لترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وقراره المتعلق بفرض تعرفة على الصلب والألمنيوم يعني أن الرئيس الفرنسي ماكرون لم يعد لديه أي شيء على الإطلاق من أجل تقديم دعم لنظيره الأميركي، وبدلاً من ذلك فإن فرنسا في الوقت الراهن تعمل على إعادة تقييم سياستها إزاء الولايات المتحدة، وهي تسأل ما إذا كان دعمها يعني تجاهل مصالحها القومية، وما إذا كان يتعين عليها إيجاد مصادر للضغط.

وقد غيرت إدارة ترامب بصورة جذرية موقف الولايات المتحدة حول التكامل الأوروبي، وفي بيانات خاصة قال العديد من مسؤولي إدارة ترامب إنهم يتبنون مقاربة جديدة إزاء الاتحاد الأوروبي، وهم يعتقدون أن الإدارات الأميركية السابقة كانت مفرطة في دعمها للتكامل الأوروبي الذي تبين أنه تحول إلى مصدر لعدم الاستقرار في رأيهم، وستترك إدارة ترامب قادة أوروبا يتخذون قراراتهم بأنفسهم، وعلى الرغم من ذلك فإن الرئيس كان يعلق بصورة متكررة على سياساتهم كما أن السفير غرينل يتدخل بشكل نشط في مجادلاتهم المحلية وتحاول وزارة التجارة الأميركية التأثير في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

العلاقة مع أوروبا الغربية

ليس في وسع الولايات المتحدة أن تكون منافسة استراتيجية في أوروبا من دون تعميق علاقاتها مع أوروبا الغربية. ويحذر ميتشل من أن الانتقاد ومن دون مشاركة ينطوي على خطر الإقصاء، وأن على الولايات المتحدة أن تكسب قلوب وعقول أجيال نسيت سنة 1989، وتحسن إدارة ترامب صنعاً إذا وضعت الجدال الأيديولوجي المتعلق بطبيعة السيادة جانباً، وركزت بدلاً من ذلك على حماية المصلحة الأميركية الاستراتيجية في كل أنحاء أوروبا، ومنعت الانهيار العشوائي لمنطقة اليورو، وتصدت للنفوذ الصيني السلبي في أوروبا، وضمنت أن القارة الأوروبية والولايات المتحدة ستعملان معاً للحفاظ على التقدم في التقنيات الجديدة، وتسهيل الخروج السلس لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإعداد وتجهيز حلف شمال الأطلسي لمواجهة حرب سياسية ومعلوماتية.

في الخامس من شهر يونيو سنة 1947 أعلن جورج مارشال في خطاب من جامعة هارفارد خطة مارشال التي هدفت الى تعزيز اقتصاد أوروبا التي مزقتها الحرب، وفي كلمة ميتشل الأسبوع الماضي في مؤسسة التراث لم يذكر تلك الذكرى، وقال بدلاً من ذلك إن الاقتصاد والتجارة من اختصاص إدارات أخرى، لكن ما كان صحيحاً عندئذ هو أن الاقتصادات والجوانب الجيوسياسية مرتبطة بصورة وثيقة للغاية.