الكتب التي صدرت عن الشاعر محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997) لا تفي بمقدار حجمه الشعري على امتداد عمره الطويل. ولعل حجمه الشعري وعمره الطويل يقفان عائقاً دون إقبال الدارسين. آخر ما صدر عنه كتاب لا ينتسب لكتب السيرة، ولا لكتب النقد، بل هو توليف ذو طابع صحافي يملأ فراغاً مهملاً بين كتب السيرة وكتب النقد. هذا الفراغ، في الأدب العالمي، تتكفل إسهامات الشاعر الشخصية، من يوميات، مذكرات ورسائل متبادلة، بملئه. ولأننا لا نتوفر على هذه الأنشطة في أدبنا العربي إلا فيما ندر، فإن مبادرة الروائي والصحافي زهير الجزائي، التي أنا بصدد عرضها، أكثر من نافعة.صدر كتاب "الجواهري: الحدث، الذات، والقصيدة" عن سلسلة "دراسات فكرية"/ جامعة الكوفة 2018، وشاء المؤلف أن يوزعه على ثلاثة أقسام: "أيام مع الجواهري"، "حوار مع الجواهري" و"مناسبة القصيدة". الأخيران نُشرا في جريدة "الحياة"، أيام أقام الجواهري في لندن في زيارة طويلة أواخر عام 1991. أما القسم الأول فانطباعات حية قطف ثمارها المؤلف عبر لقاءاته مع الشاعر في بغداد، دمشق ولندن. وهذه الانطباعات هي الأكثر حيوية في الكتاب، لأنها صدرت عن عوامل عدة: منها انتسابهما معاً لمدينة النجف، ومنها لقاءات حميمة وعملية كان زهير فيها يكتب ما يملي عليه الشاعر من مذكراته (صدرت في جزأين) وغيرها من أنشطته، ومنها أن المؤلف روائي متمكن، وصحافي معظم سنوات عمره. إن قراءة هذا القسم يُغني المخيلة بصورة تكاد تكون وافية، لا عبر ما يراه المؤلف بالعين في لحظات اللقاء فقط، بل عبر اجتهاداته في تأويل ما يحدث: لنتأمل هذا الحدث حين حاول زهير والمخرج قاسم عبد أن ينتجا فيلماً وثائقياً عنه:
"حاولنا تقليل المبلغ، لكنه أصرّ على أكثر من نصف ميزانية الفيلم. زوجته أم نجاح أسرّتني همساً: كذب، ليس المال ما يُهمُّه، إنما الخوف من الموت. لم أدر ما علاقة الفيلم بالموت حتى شرحت لي أن الفكرة عُرضت عليه أكثر من مرة في بلده أن يجري تصويره في الأماكن التي شكلت تاريخه، وكان جوابه الدائم هو الرفض. لقد قبل كتابة يومياته لأنه هو المتحكم في ماضيه. في الفيلم سيكون منقاداً لمن يريد أن يسجل حياته، يسجلها لما بعد الحياة". ص26 إنها التقاطة بارعة، وسنجد لها مثيلا. كان الجواهري في زيارته اللندنية يشكو من كائن شبحي يسميه "النذل" يلاحقه أينما يذهب، وخاصة في شقته، يتنصت له من السقف ومن خلال الجدران، وأنا الآخر شاهدٌ على ذلك. يقول المؤلف: "لم أعرف النذل حين تحدث الجواهري عنه: "طوال الليل ظل النذل يدق الباب أو سقف الغرفة أو الجدار القريب من سريري...". حين أوشكت أن أسأله "من هو النذل؟"، "تتظاهر بأنك لا تعرفه؟!". النذل يتتبع خطوات الجواهري. مرة كان ثالثنا ونحن نصعد السلالم. فجأة قال لي ونحن وحدنا: "أشششش!" سَكَتُّ وأصغيت مثله للصمت. ص29 الطبيب الذي فحص الجواهري في لندن أحال هذا الوسواس لضعف الحواس عند الكبار. الحواس تتعامل مع المحسوسات الواقعية. حين تضعف تتحرك المخيلة فترى ما لا يراه الإنسان. لكن الأمر لا يتعلق بالجواهري وحده، إنما هو جزء من الخوف العراقي الذي لاحق شاعراً مثل مظفر النواب، وفنانة مسرحية مثل زينب. هذا الارتياب يشمل كل أصدقاء الشاعر سعدي يوسف ورفاقه إلى درجة أنه يوزع عليهم أرقاماً في المخابرات، بل ويحدد رواتبهم. إنه هذا المخبر الافتراضي التاريخي، غير المحدد وغير الواضح الوجه الذي زرعته أنظمة القمع والتنصت في أعماقنا جميعاً". ص30-31هناك أكثر من إضاءة لتكوين الجواهري المضطرب، المتعارض، العلماني بامتياز، المحتفي بالنفس الشاعرة حين يغني قصيدته التي يشرع في كتابتها، أو يهلل لها حين يستعيد أبياتها: "وأهتف لنفسي: الله! الله! يلعن أبوك! كيف عملت هذا؟!". لا يقل عن هذه الإثارة الحوار معه في القسم الثاني، وهو ينصرف لفن الشعر. في القسم الثالث مختارات الشاعر من شعره مع رواية قصة كل قصيدة.
توابل - ثقافات
من سنوات الجواهري الأخيرة
17-06-2018